المروج بين هشاشة الظروف البيئية وتأثير التغيرات المناخية

عبد الإله بن مصباح – كلية العلوم – جامعة ابن طفيل

نظرا لما بدأت تثيره اليوم معضلة التغيرات المناخية من أخطار تهدد معايش الإنسان وتمس استقرار بيئاته الطبيعية، تلك المعضلة التي يوجد الإنسان في صلب موضوعها كمسؤول عنها ومتحمل لعواقبها، ثم نظرا لكون العلوم اليوم لا تستطيع الإجابة عن كل التساؤلات المطروحة حول هذه المعضلة، وإنما التفسيرَ لبعض ظواهرها وإعطاء التنبؤات واقتراح بعض الحلول التي تبقى في مجملها جزئية، ارتأيت أن أقدم نموذج المروج كبيئات طبيعية ساحلية تخضع من جهة لتأثير هذه التغيرات المناخية ثم تتطور من جهة أخرى تحت تأثير ظروف يطغى عليها عامل الهشاشة البيئية. هذه الهشاشة تتجلى في الوضع الناجم عن عدم استقرار المكونات الناتجة عن تلاقي مياه من أصول مختلفة برية وبحرية، وما يترتب عن ذلك من اضطرابات على مستوى منقولاتها الرسوبية التي تشكل قاعدة الأساس لنمو وتبلور الحياة في أوساطها المائية.

فهذه المروج الشاطئية تغطي أكثر من عشر مساحة الشواطئ العالمية. وتتميز عن غيرها من البحيرات والبرك المائية بوجود حاجز رملي يعزل المرجة نسبيا عن البحر الذي تظل متصلة به عن طريق ممر مائي محدود الاتساع يزودها بالمياه المالحة، وبتلقيها مياها عذبة من الجهة البرية. هذا التلاقي بين مياه مالحة مزودة بمواد بحرية وأخرى عذبة محملة بالرواسب القارية يجعل من هذه المروج مناطق هامة لتبلور المادة وتبادل الطاقة بين عالمي البر والبحر. الشيء الذي يُخضع تطورها لتغيرات سريعة تطبع هذه الأماكن من الأرض بحساسية شديدة وهشاشة كبيرة.

فإذا عدنا إلى تاريخ تكون هذه المروج وجدناه مرتبطا بفترات التغيرات المناخية التي شهدتها الأرض والتي تزامنت مع ذوبان الكتل الثلجية وارتفاع منسوب البحار عند نهاية الحقب الجليدية التي تعاقبت على سطح الأرض والتي كان آخرها في عصر الهولوسين أي قبل ما يناهز 8000 سنة من زماننا. إلا أن الأرض في هذا العصر عالجت هذه التغيرات بفضل تلك الفاعلية الذاتية التي بثها الله فيها، بحيث أنشأت مروجا شاطئية على مساحات معينة من سواحلها المنخفضة لتحويل الزائد من ارتفاع مياه البحر إلى مد أفقي على أطراف البر.

فكون أن هذه المروج تكونت وفقا لهذا المنظور تحت تأثير عامل المد البحري الذي عرفته الأرض في تلك الفترة ، فذلك يعني أنها جاءت استجابة لمبدأ التوازن الذي لا ينبغي أن يختل بين البر والبحر، وذلك في سياق النظام العام الذي بموجبه تعمل الأرض على إعادة ترتيب نُظمها تمشيا مع سنة التطور التي تسري على بيئاتها الطبيعية.

فإذا نحن لم نتخذ التدابير اللازمة للحد من ظاهرة التكدس الرسوبي الذي تشهده هذه المروج في خضم ما تعرفه الأرض اليوم من ارتفاع لمستوى البحار الناتج عن الاحتباس الحراري الناجم عن التغيرات المناخية فإن امتلاءها بالرواسب سيؤدي إلى انغلاقها على البحر وتحولها إلى أراضي يابسة، مما سيحدث خللا في النظام الطبيعي العام للمناطق الساحلية. فبدلا من أن تمتص هذه المروج ذلك الزائد المحتمل من مياه المحيطات المتزايدة كما فعلته عند نشأتها، ستسيح هذه الأخيرة على الأراضي الشاطئية محدثة بذلك أضرارا بالمنشآت والأراضي الفلاحية، بل وحتى بفرشات المياه الباطنية المتاخمة للحدود الشاطئية نظرا لزحف الخط الشاطئي داخل المجال القاري وولوج الفرشة المالحة في العذبة ملوثة بذلك مياهها بملوحة المياه البحرية.

ولفهم طبيعة هذه الهشاشة وإدراك أبعادها، سنقف بالمعالجة والتحليل على المرجة الزرقاء بمولاي بوسلهام الواقعة في الجزء الشمالي لسهل الغرب المطل على الساحل الأطلسي للمغرب كنموذج لهذه البيئات.ففي هذا الوسط، نجد الرواسب المنقولة من البر عبر الأنهار ومن البحر عبر الممر، تتراكب في متتالية يترجم تسلسلها الزمني من الأسفل إلى الأعلى تراجعا من رمال كلسية بحرية إلى طين وأوحال قارية. الشيء الذي يترجم تطورا عبر الزمان لهذه المرجة من ظروف بحرية إلى واقع تطغى عليه المؤثرات القارية. مما ينعكس سلبا على حياة الكائنات بحالة من عدم الاستقرار مرتبطة أساسا بعدم استقرار تربة قاع المرجة التي لا تكاد الرواسب تتماسك فيها حتى تجرفها التيارات المائية. وهذا يُظهر مدى هشاشة الظروف البيئية التي تميز هذا الوسط.

هذه الاضطرابات التي سجلناها من خلال معاينتنا الميدانية لآليات العمل في هذه المرجة التي هي بمثابة محطة تعمل على التصفية الميكانيكية للرواسب والتسوية الكيميائية لمكونات المياه العابرة بين مجالي البر والبحر، تَظهَر تداعياتها على مستوى مجالها المائي الذي هو اليوم في تراجع مقلق نظرا لما تسجله المرجة من تكدس للرواسب الآتية من حمولات الأنهار. هذا التكدس الذي ينذر بامتلاء المرجة بالرواسب وتحولها إلى أرض يابسة، بعدما كانت على لائحة المناطق الرطبة المعترف بها عالميا، له ارتباط مباشر بظاهرة السيول التي قد تكون ذات صلة بما تحدثه التغيرات المناخية على المستوى العالمي، إلا أن تمة عوامل بشرية زادت في تأجيجه كاقتلاع الغابات وما صاحبه من تدابير التهيئة التي جعلت مساحات ترابية كثيرة معرضة للتعرية.

فكيف تتجلى هذه الإشكاليات على واقع هذه المرجة وما الإشارات التي تحملها بخصوص مفهوم ظاهرة المرْج ؟المرْج من فعل مَرَج الذي يفيد اصطلاحا اختلاط جسمين مختلفين دون ذوبان خصائص كل منهما في الآخر ومنطقة المرج تسمى مرجة والجمع مروج. وتوجد هذه المروج في أماكن التقاء مياه البحار مع مياه الأنهار إذ تتميز عن غيرها من البحيرات والبرك المائية بوجود حواجز طبيعية تعزلها نسبيا عن البحر الذي تظل متصلة به عن طريق ممر مائي محدود الاتساع يزودها بالمياه المالحة وبتلقيها مياها نهرية عذبة من الجهة البرية. هذا التلاقي بين مياه مالحة مزودة بمواد بحرية وأخرى عذبة محملة بالرواسب القارية يجعل من هذه المروج مناطق هامة لتبلور المادة وتبادل الطاقة بين عالمي البر والبحر. الشيء الذي يُخضع تطورها لتغيرات سريعة تطبع هذه الأماكن من الأرض بحساسية عالية وهشاشة كبيرة.

هذه الخصائص عايناها في المرجة الزرقاء بمولاي بوسلهام1 التي تمتد على مساحة 30 كلم مربع، ويبلغ عمق مياهها ما بين مترين إلى بضعة سنتيميترات (الصورتان 1 و2). فهذه المرجة تتلقّى مياها عذبة من نهري الضراضر والناظور ومياها مالحة من المحيط الأطلسي، لكنها لا تعرف ذوبانا لخصائص كل من هذه المياه في بعضها. بل تسجل نوعا من التناضد (stratification) يتجسد في شكل طبقات مائلة متمايزة عن بعضها، تتراكب في تناقص تدريجي للملوحة باتجاه الطرف النهري للمرجة. بحيث تنحدر الطبقات المائية الأكثر ملوحة المتاخمة للممر البحري إلى عمق المرجة نظرا لارتفاع كثافتها. بينما ترتفع الطبقات المائية الأقل ملوحة المتواجدة إلى الطرف النهري للمرجة فوق الكتل المائية المالحة نظرا لضعف كثافتها. فينتج عن هذا الوضع جريان للمياه يجعل الطبقات المائية العليا تساق في اتجاه البحر، بينما تتحرك المياه السفلى الأكثر ملوحة نحو وسط المرجة. وهكذا تظل هذه الكتل المائية رغم تداخلها غير متساوية، محتفظة كل منها بدرجة ملوحة خاصة، لا تبغي إحداها على الأخرى مهما تغيرت حركات المد والجزر من الجهة البحرية، أو صبيب الأنهار من الجهة البرية.

الصورة 1: المنطقة البرية للمرجة المؤدية إلى المياه النهرية

الصورة 2: المنطقة البحرية للمرجة حيث الممر الذي يصلها بالبحر

هذا الانعدام في التساوي بين الكتل المائية للمرجة يَظهر أيضا على مستوى منقولاتها الرسوبية التي تشكل قاعدة الأساس لنمو وتبلور الحياة فيها. ففي هذا االوسط، نجد الرواسب المنقولة من البر عبر الأنهار ومن البحر عبر الممر، مختلفة تماما عن بعضها وتتراكب في شكل متتاليات تعبر عن تراكم متزايد (comblement) تجسده التوضعات الرسوبية لقاع المرجة التي تترجم من الأسفل إلى الأعلى تراجعا عبر الزمان من رمال كلسية بحرية إلى طين وأوحال قارية. مما ينعكس سلبا على حياة الكائنات بحالة من عدم الاستقرار مرتبطة أساسا بعدم استقرار قاع المرجة الذي لا تكاد الرواسب تتوضّع فيه حتى تجرفها التيارات المائية. فيصعب بذلك استقرار الأوضاع الفيزيائية والكيميائية وبالتالي الحياتية في هذا الوسط الذي يبقى بمثابة منطقة حظر، تعبرها المياه في بحث دائم عن توازن مفقود لن يتحقق أبدا. وإلى ذلك أشار كتاب الله في قوله تعالى: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) (الفرقان 53). فكيف يتم ذلك ؟

إن التداخل بين مياه عذبة قارية ومياه مالحة بحرية يجعل الوسط المائي للمرجة خاضعا في تركيبته لتغيرات مستمرة مع تغير فصول السنة. ففي فصل الشتاء حيث تكثر الأمطار وتحمل الأنهار تطغى على المرجة المياه العذبة الآتية من البر. فتدفع المياه المالحة نحو منطقة الممر البحري وتعيق نفوذها إلى وسط المرجة. أما في فصل الصيف حيث تجف الأنهار فإن المياه المالحة العابرة من البحر هي التي تطغى على المرجة.

هذه التغيرات في ملوحة مياه المرجة عبر تنقل خطوط التماس بين المياه المالحة والمياه العذبة من منطقة الممر البحري إلى منطقة المصب النهري تعكس نوعا من النضيد (stratification) الدال على تدرج الكتل المائية في طبقات مائلة تتناقص ملوحتها كلما اتجهنا نحو الطرف النهري. فلقد بينت لنا مقاييس المسح العمودي والأفقي لملوحة المرجة خلال الفترة الشتوية أن المياه تتنضد في طبقات مائلة من الجهة البحرية إلى الجهة البرية. بحيث نجد الطبقة المائية ذات الملوحة البحرية (3.4 %) المتاخمة للممر البحري تنحدر تدريجيا وتميل إلى أن تنتهي في نقطة معينة من قاع المرجة نظرا لارتفاع كثافتها ثم تعلو فوقها الطبقات الأقل ملوحة ثم الأقل حتى نصل إلى الطبقات المتاخمة للمصب النهري حيث المياه العذبة التي تطفو على سطح المرجة. الشيء الذي يحدث جريانا للمياه في اتجاه معاكس لدوران عقارب الساعة، يجعل المستويات العليا الأقل ملوحة تفرّغ في اتجاه البحر بينما تتنقل المياه السفلى الأكثر ملوحة نحو وسط المرجة. وهذا الوضع يعطي لمياه المرجة ترتيبا في مستويات مائلة تجمع بين تدرج الملوحة على المستويين الأفقي والعمودي. مما يجعلها رغم اختلاطها تبقى محتفظة كل منها بخاصيتها لا تمتزج ولا تبغي إحداها على الأخرى مهما تحرك المد أو الجزر من الجهة البحرية ومهما ارتفع صبيب المياه أو انخفض من الجهة البرية كما يبين الشكل 1:

يبين المستويات الفاصلة بين الكتل المائية مختلفة الملوحة من الممر البحري إلى المصب النهري. الأرقام تبين النسب المئوية للملوحة. السهام تبين اتجاه التيارات المائية في المرجة

أثر الفاعلية المائية على رواسب قاع المرجة

هذه الكتل المائية التي تعبر المرجة بانتظام وتلقي فيها كميات هامة من الرواسب البرية والبحرية تعمل باستمرار على تفعيل عملية بناء الدلتا نظرا لما يحدثه تعارض التيارات النهرية مع البحرية من تكويم للرواسب. فرغم كون حجم المياه البحرية التي تعبر الممر البحري إلى المرجة خلال كل فترة مد تقدر بمليون متر مكعب2 فإن حجم المياه العذبة الآتية من المصبات النهرية المحددة في متوسطها ب 2500 متر مكعب خلال فترة المد ورغم ضئالتها تبقى كافية لتأجيج زحف الرواسب البرية إلى وسط المرجة. وذلك راجع إلى الكم الهائل من الرواسب التي تنقلها الأنهار. فوادي الضراضر لوحده ينقل سنويا إلى المرجة 31.5 مليون متر مكعب من المياه محملة بما قدره 2000 طن من الرواسب. أما قناة الناظور فتنقل سنويا إلى المرجة 150 مليون متر مكعب من المياه محملة بما قدره 450000 طن من الرواسب3. الشيء الذي ينجم عنه تكدس متزايد للرواسب البرية وتحرك مستمر لمكوناتها بحيث لا تكاد الرواسب تتوضع حتى تجرفها التيارات المائية وتنقلها إلى أماكن متفرقة. مما يجعلها غير مستقرة ويحول دون تفاعلها مع التركيبة الكيميائية للمياه التي من شأنها أن تساهم في تكوين قاع صلب تستقر عليه الحياة. فينعكس ذلك سلبا على حياة الكائنات بنوع من الإقصاء البيولوجي الذي يحول دون استقرارها على تربة القاع.

وما ذلك إلا تعبيرا عن مدى التغييرات القصوى التي تعيشها هذه الأماكن من الأرض التي هي بمثابة محطات تصفية ميكانيكية وكيميائية تعمل بدون انقطاع في خط التماس بين نطاقي البر والبحر على فرز الرواسب وإعادة توزيعها، ثم تحويل مركباتها وتركيز موادها الناجمة عن محمولات الأنهار الألومينية والسيليكونية المزودة بالمعادن الثقيلة ومنقولات البحر الكربونية المزودة بالمواد العضوية. فتداخل هذه المكونات فيما بينها بحثا عن وضع متجانس يتلاءم وظروف الوسط المحيط بها يجعلها في تأرجح وعدم استقرار نظرا للمناعة العالية التي تجعل هذه الأماكن تدفع الفوارق في مميزات المياه المختلفة كلا إلى نطاقه حتى لا تطغى أي منها على الأخرى. فيبقى البحر محتفظا بماءه ملحا أجاجا ويبقى البر محتفظا بماءه عذبا فراتا. هذا التمايز في تركيبة المياه داخل الوسط المائي للمرجة عايناه من زاوية أخرى. فلقد أفرز لنا التحليل المجهري لرواسب قاع المرجة

عن نوع من بلورات الكوارتز المجهرية ذات الشكل الهرمي عند طرفيها (Quartz bipyramidés) متواجدةً مع كميات مهمة من بلورات الجبس. وتبين لنا من خلال معالجتنا لهذه البلورات أنها نشأت في الظروف الطبيعية للمرجة ولم تُنقل إليها مع الرواسب من أماكن أخرى رغم درجة التآكل العالية التي تطغى على معظم الحبات الأخرى المكونة لرواسب قاع المرجة. وبذلك ونظرا لكون الجبس لا ينشأ إلا في الأحواض المائية الشديدة الملوحة من جراء انغلاقها وتبخر مياهها، وباعتبار أن بلورات الكوارتز المذكورة هي نتاج تفاعلات كيميائية بين مياه مالحة وأخرى عذبة كما تذكر الدراسات الجيوكيماوية4، فإن رواسب المرجة توحي باحتمال تحقق نفس الشروط في فترات تطورها: فانعزال أجزاء من المرجة في شبه بحيرات منغلقة محاطة بصخور غنية بالسليكون قد يكون ساهم بشكل كبير في نشوء هذه البلورات من جراء تبخر المياه وارتفاع درجة الملوحة. ويمكن معاينة هذا الوضع بشكل أوضح في عمل بعض المروج الحالية المتواجدة في المناطق المدارية والتي تتجمع فيها مياه مالحة مع أخرى عذبة. فعلى سبيل المثال دلت دراسة مرجة Fernand Vaz في الغابون5 على أن نشوء مثل هذا النوع من البلورات الكوارتزية يتم نتيجة تفاعلات كيميائية تحصل بين المجال الصخري الغني بالسيلكون والوسط المائي على طول المساحات الفاصلة بين الكتل المائية مختلفة الملوحة. وتلعب عملية التبخر في ذلك دور المحرك الرئيسي الذي يعمل على تركيز السيليكون لتكوين بلورات الكوارتز الهرمية التي تظل بمثابة البصمات الشاهدة على عدم امتزاج الكتل المائية مختلفة الملوحة رغم مرْجها.

الدلالات الإعجازية في ظاهرة مرْج المياه

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى (مرَج البحرين): قال مجاهد: أي « أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر ». وقال ابن عرفة: أي « خلطهما فهما يلتقيان ». ومرَج الدين والأمر أي اختلط واضطرب ومنه قوله تعالى: (فهم في أمر مريج) (ق 5). وعنه رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر عن معنى المرج بتشبيك أصابع يديه الكريمتين. وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: « إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا » وشبك بين أصابعه. فقلت له كيف أصنع عند ذلك جعلني الله فداك. قال: « إلزم بيتك وأملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر. وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة ». خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما. استنادا إلى ما جاء في التفسير، نجد أننا إذا وقفنا على تعريف فعل مرَج الذي اشتقت منه كلمة مرْجة التي تعرف بها مرجة مولاي بوسلهام منذ كانت، فإننا سنجده يفيد اصطلاحا اختلاط جسمين مختلفين دون تساوي خصائصهما: أي تداخل مكوناتهما دون ذوبانها في بعضها. وهذا ما يحصل في أوساط المروج بما تعبر عنه مكوناتها من تبلور بفعل تداخل عناصر متمايزة جاءت من بيئتين مختلفتين: بحرية وبرية، فالتقت في مد وجزر دون أن تبتلع أي منهما الأخرى. وهو المعنى الخفي الذي انطوى عليه حديث رسول الله في موضع تشخيصه صلى الله عليه وسلم لمرج العهود لما شبك بين أصابع يديه الكريمتين. فهذا يعني تداخل هذه في هذه مع ضرورة لزوم حد معين في ذلك لا ينبغي لأي جهة أن تتجاوزه مهما تحرك الكل في هذا الاتجاه أو في الاتجاه المعاكس. وهو ما بينه كتاب الله في قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان) (الرحمن 17-18): أي جاجز يمنع كل جهة أن تطغى على الأخرى.

وهكذا فمن خلال معايناتنا هذه الميدانية ومن استشهادات الآخرين نستنتج أن التعبير البليغ الذي جاءت به الآيات الكريمة في وصف مرج البحار، وكذلك الحديث النبوي الشريف في تشخيص مرج العهود يتضمن من الدقة في البيان ما لا يمكن إدراكه إلا بحس علمي جد متقدم. وذلك سر الإعجاز البياني في الوصف القرآني الذي باستعماله لفعل مرَج أقر قانونا يستحيل بموجبه التساوي بين البحرين. فلا يذوب هذا في ذاك ولا يبتلع أحدهما الأخر. فسبحان من قال وقوله الحق: (وما يستوي البحران. هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج. ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها.) (فاطر 12). فعدم التساوي هذا جاء تبيانا لظاهرة المرج التي يمكن استشعارها في أي منطقة تلتقي فيها مياه من أصول مختلفة، لأنه إذا كانت سورة الفرقان قد جاءت بوصف الظاهرة في منطقة التقاء مياه مالحة مع مياه عذبة، وذلك في قوله تعالى: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج) (فاطر 58)، فإن سورة الرحمن قد وقفت عليها في منطقة تلاقي مياه بحرية متفاوتة الملوحة مع بعضها، وذلك في قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان) (الرحمن 17-18). والدليل على ذلك ما أتت به الآية التي تلتها في وصف هذين البحرين باحتوائهما على اللؤلؤ والمرجان، وذلك في قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) (الرحمن 22) وهما العنصران اللذان لا يتكونان إلا في البحار المالحة. وعليه فهذا الذي تقره الآية الكريمة في عدم التساوي بين البحار تظهر آثاره على مستويات عدة: – فعلى المستوى الفيزيائي، نجد أن الماء كلما زادت ملوحته إلا وارتفعت كثافته. بحيث إذا التقت مياه متفاوتة الملوحة مع بعضها، فإن عامل الكثافة يحدث تراكبا بين طبقاتها. فتعلو الطبقات المائية القليلة الملوحة فوق الشديدة الملوحة في تناضد مائل نحو المنابع العذبة، معبرة بذلك عن عدم التساوي في المواضع بين مختلف الطبقات المائية، كما رأينا ذلك مجسدا في مرجة مولاي بوسلهام (الشكل 1).

– وعلى المستوى الكيميائي، نجد أن الماء كلما زادت ملوحته إلا وأصبح أكثر قاعدية، بينما تبقى المياه العذبة عامة أكثر حموضية. وهذا الاختلاف في الحموضة (pH) له تأثير كبير على نوعية المعادن التي تتكون في كل وسط مائي، وبالتالي على طبيعة الرواسب المشكّلة من هذه المعادن والتي ستكوّن الأرضية التي عليها ستنمو الكائنات الحية وتتنوع. – أما على المستوى الإحيائي، فإن عدم التساوي بين المياه تظهر آثاره جلية على نشوء واستقرار الكائنات الحية. فعلى سبيل المثال نجد أن مرجة مولاي بوسلهام لا تتردد عليها الأسماك إلا في أوقات المبيض. فتضع بيضها في الجانب البري حيث الملوحة أقل ثم تعود أدراجا إلى البحر. كما أن الكائنات الأخرى التي تحيى على ارتباط مباشر بتربة القاع كبعض القواقع والديدان والسلطعونات لا تقدر على تحمل الاضطرابات الفيزيائية والكيميائية التي تنتج عن مرج المياه، فتضطر إلى حفر ملاجئ لها في عمق التربة لتحمي نفسها من تأثير هذه الاضطرابات على وظائفها. وهكذا فما جاء في الآيات الكريمة وفي حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم منذ ألف وأربعمائة سنة حول مفهوم المرج، لم يتمكن العلم من فك رموزه إلا مؤخرا بعد جهود مكثفة بين أخصائيين في علوم البيئة والمناخ والرواسب وغيرها، حيث بدأت الرؤية تتوضح حول خصوصيات هذا المفهوم في إثبات حقيقة منطقة المنع التي تتحدد بموجبها عملية المرج. بحيث مهما طغى جانب من جوانب البر أو البحر على الآخر فإن هذه المنطقة ورغم تنقلها في المكان تبقى برزخا كابحا لجماح كل طرف أن يبغي على الآخر. فتكون حقا جزءا من آليات الميزان الذي وضعه الخالق لتثبيت قرار الأرض القائم في جزء كبير منه على ضبط معادلات التسوية بين البر والبحر، كما جاء في قوله تعالى: (أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا. أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) (النمل 61)

. المراجع :

(1) Benmesbah A. (2018) – Equilibre et stabilité de la lagune de Moulay Bou Selham dans son contexte géologique de comblement. Les journées géologiques du Maroc, Ministère de l’Energie des Mines et du Développement durable, Rabat, 8-9 mai 2018, pp. 28-29. (2) Zarzoso (1982) : Hydrolynamique de la lagune de Moulay Bou Selham (Merja Zerga – Maroc). Institut Scientifique des Pêches Maritimes, Casablanca. Travaux et documents n° 36, 9 p. (3) Carrueco C. (1989) : Genèse et évolution de trois lagunes du littoral atlantique depuis l’Holocène. Oualidia, Moulay Bou Salham (Maroc) et Arcachon (France). Thèse d’Etat n° 960, tome 1, Univ. Bordeaux I, 485 p. (4) Baltzer F. et Le Ribault L. (1971) : Néogenèse de quartz dans les bancs sédimentaires d’un delta tropical. Aspect des grains en microscope électronique et optique. C. R. Acad. Sc. Paris, t. 273, D, pp. 1083-1086. (5) Giresse P. (1968) : Autigenèse actuelle de quartz bipyramidés dans la lagune de Fernan-Vaz (Gabon). C.R. Acad. Sc.,Paris, 267 : 145-147.

Lire aussi

FLORENCE BERGEAUD-BLACKER OU LES FANTASMES FUNESTES DE L’ISLAMOLOGIE SÉCURITAIRE

Par Roland LAFFITTE L’anthropologue du CNRS Florence Bergeaud-Blackler vient de publier Le Frérisme et ses …