من أجل علم مفعم بالإيمان

عبدالإله بن مصباح – جامعة ابن طفيل – المغرب

سعيا إلى تحسيس أهل العلوم الدنيوية بأهمية الأخلاقيات العلمية المنبثقة من القيم الدينية، وإحياءً لذلك الحس العقلي عند أهل العلوم الدينية بما يضمن حسن استثمار نصوص الوحي وترشيد التعامل مع مقاصدها، جاءت هذه المشاركة لتلقي الضوء على واقع العلم المعاصر ومدى احتياجه إلى استنهاض همة التفكر التي هي المحرك الأساسي للعشق العلمي المؤسس للبناء الحضاري المتوازن مع النظام الكوني.

فالعلاقة بين العلم والإيمان هي علاقة قديمة جديدة. قديمة بقدم خلق الإنسان حيث كان آدم أول خليفة لله في الأرض علّمه الله فقال عز وجل في حقه: (وعلم آدم الأسماء كلها) (البقرة 31)، وجديدة بتجدد فكر الإنسان وتطور مداركه مع تزايد المعلومات وتراكم المعارف إذ تشكل المحفّز الأمثل لانبعاث روح الاجتهاد والتجديد، والوازع الأصلح لخلق روح الإبداع الرشيد، لأن الفهم الصحيح المتجدد لمعاني آيات الكتاب المنزل لا يتأتى إلا بالإدراك السليم لمغزى دلالاتها العلمية. كما أن الإبداع الرشيد في الميادين التنموية لا يتحقق إلا بتوجيه العلوم على درب الاستقامة العلمية المشمولة بالضوابط الأخلاقية.

ومن تم كان العمل وفق هذه العلاقة دأب كل السابقين من السلف الصالح للأمة الإسلامية حيث اجتمع على مائدة القرآن الكريم عالَم الفكر مع عالَم الذكر في نقطة جعلت عالِم الطبيعة يتعامل مع مكوناتها برؤية رشيدة وعالِم الدين يتعامل مع نصوصه بقراءة علمية متجددة. فتحققت بذلك رؤية الإسلام المتميزة في تعليم العلوم ونظرته الشاملة للمقاصد التنموية والحضارية. ووُجّهت العلوم على خطى الحكمة والأمانة حتى أشعت بنورها فوق ربوع العالم.

فالعلم المقصود في الإسلام هو علم بالدين والدنيا كما نستدل على ذلك بقوله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) (الزمر 10) الذي يحتمل فيه فعل عَلِم أن يكون لازما أو متعديا. فإذا كان لازما فهو يعني جميع العلوم بلا تمييز بين ما هو ديني وما هو دنيوي. أما إذا كان متعديا فالمفعول به المحذوف سيكون هو القرآن أي: (الذين يعلمون هذا القرآن) وبالتالي في كلتي الحالتين نجد أن العلم المطلوب لا يفرق بين ما هو ديني وما هو دنيوي لأن القرآن وإن كان هو المقصود بالعلم فإنه كما جاء بالأحكام الشرعية التي لا تتعدى نصف العشر من آياته كذلك جاء بالدعوة إلى النظر في اليقينيات الكونية التي تشكل القسط الأكبر من إشاراته.

ولعل في الآية التي استدللنا بها على هذه العلاقة والتي ختمت بقوله تعالى: (إنما يتذكر أولوا الألباب) لخير دليل على هذا المعنى. فأولوا الألباب هم الذين وصفهم الحق تبارك وتعالى في قوله: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) (آل عمران 190). إذن هم الذين يرجعون إلى هذه الظواهر الكونية المحكمة آياتها في السماوات والأرض يبتغون بها الوصول إلى اليقين بالآيات الغيبية فلا يفصلون الفكر عن الذكر كما وصفهم الله تعالى في بقية الآية بقوله: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) (آل عمران 191).

ولهذا جُعل العلم في الإسلام فريضة. ففوق كونه مَشاعا بين الناس والتزود منه حق، إلا أن المسلمين اعتبروه واجبا لأنه ضرورة في فهم حقيقة الدين (فاعلم أنه لا إله إلا الله) (محمد 18) وسلاح في الدعوة إلى الله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) (النحل 125). فوقع هنالك التنافس على طلبه واضطر المسلمون إلى الانفتاح على حضارات الأمم الأخرى ولغاتهم وثقافاتهم. فتحرك البحث العلمي عند الأمة وظهرت الفرق والتيارات الفكرية المتنافسة.

وهكذا لما فتح المسلمون الأمصار قوبل أهلها بالتسامح وبقوا على حياتهم الفكرية والدينية فتمازج معهم المسلمون بالأخذ والعطاء وتقربت الأقوام من المسلمين بفعل هذا الانفتاح والتسامح فأقبلوا بتهافت على تعريب علوم اليونان وفارس والهند فتعرفت الأمة منذ القرون الأولى للهجرة على طب أبوقراط وجالينوس وفلك بطليموس وهندسة أوقليدس وحِكم أفلاطون وأرسطوطاليس وغيرهم. فأزيلت الحواجز بفعل هذا الانفتاح وتشكلت بفعل هذا التنوير الديني نماذج رائعة من التضامن العلمي اتجه العمل فيها إلى الرقي بالإنسان في مراتب الكمال، مما أضاف إفادات جديدة للإنسانية.

إلا أن هذا الانفتاح الذي أقبل عليه المسلمون لم يكن في اتجاه الذوبان في الآخر واستهلاك منتوجه الاستهلاك المجرد بل كان المسلمون إلى جانب انفتاحهم على علوم الآخرين وتقديرهم لجهودهم ينبذون التقليد فكانوا لا يأخذون من الكتب المنقولة إلا بالشرح والمناقشة والتصحيح العلمي بعرض محتوياتها على محك التجربة والتحقيق العلمي المدقق فانتقدوا أشياء كثيرة في عدة مواضيع أثنوا على أصحابها فيما أصابوا فيه وردوا عليهم ما أخطئوا فيه. والتزم العلماء المسلمون التزاما شديدا بمبادئ الأمانة العلمية والنزاهة الفكرية والسلوك الأخلاقي المنبثق من قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (البقرة 111) ومن قوله أيضا: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسئولا) (الإسراء 36). فكان انفتاحهم على علوم الحضارات السابقة انفتاحا إيجابيا لم يسبق له مثيل في مد جسور التواصل والتآخي.  

ولم تعرف الحضارة الإسلامية قطيعة بين العلماء والفقهاء بل كان العالم فيها فقيها في الدين والفقيه عالما بعلوم الدنيا. والشاهد على ذلك أقوال المفسرين الذين مع كونهم فقهاء في الدين كانت تفاسيرهم لكتاب الله مفعمة بشتى علوم الدنيا. فمثلا في تفسير ابن كثير لقول الله تعالى (أفلم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم. أفلا يبصرون) (السجدة 27) نجده يقول أن أرض مصر مرادة في هذه الآية لأنها كما قال رحمه الله « أرض  رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطرا لتهدمت أبنيتها فيسوق الله تعالى إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة وفيه طين أحمر فيغشى أرض مصر وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء وذلك الطين أيضا لينبت الزرع فيه. فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم وطين جديد من غير أرضهم فسبحان الحكيم الكريم ».

 هذا التفسير إذا أخذناه من رؤية علمية حديثة نجد فيه من الدقة  في التصنيف ما ينم عن إلمام بعلوم الجغرافيا وعلوم الزراعة والتربة وتفاعلها مع الماء ثم علم العمران وطبيعة الأبنية وتجاوبها مع بيئاتها الطبيعية وهو ما لا يمكن الوصول إليه إلا بحس علمي دقيق لأن الماء ليس وحده الذي ينبت الزرع بل المواد المعدنية التي يحملها من تعرية الجبال وهو ما يثبته العلم حاليا بعدما تكشّف منبع النيل من بحيرة فيكتوريا المحاطة بأعلى القمم البركانية لوسط أفريقيا. وهذا يظهر أن الفقيه لم ينحصر علمه فيما جاء به النقل فقط بل تعداه إلى استعمال العقل والبحث في علوم الطبيعة وغيرها. بالمقابل نجد علماء العقل كانوا أيضا فقهاء والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها وصية عالم الكيمياء جابر ابن حيان وهو أبو الكيمياء باعتراف الغرب حيث قال « لا تعلموا الكيمياء إلا لمن تأمنون دينه وخلقه » وهو كلام ورع ينم عن فقه ديني عميق وأمانة علمية متأصلة.   

فالعلم ذلك المشعل الذي لا ينطفئ نوره هو دليل الإنسان في حياته وبقاء عمله بعد مماته. فإن هو احتضنته أيد عارفة به أشع بنوره وأضاء. وإن هو وقع في أيد العابثين ألقى بشراراته فأحرق. والعالِم النافع هو العارف بعبء الأمانة وجسامة هذه العلاقة. أما الخارج عن هذا الإطار فيعتبر مفرطا وظالما لنفسه وللإنسانية لأنه بعلمه المنفصل عن الدين قد يورد العالم مآسي إنسانية وويلات لن يكون الخلاص منها بالشيء الهين. وهو ما يلاحَظ اليوم في عالم تحددت فيه معالم الإنسان برسم دائرة عزلته عن باقي المقومات الراقية للطبيعة وألزمته التقيّد بمحدودية منافعها الدنيوية. فتصدّر العالم إنسان الغريزة والأنانية وغُيب عنه إنسان القيم الأخلاقية.

هذا ما آل إليه واقع العلم الحالي لما غيّب عن ساحته الفكرية حقيقة المسار الموروث من الماضي والمرتبط ارتباطا جذريا بأبعاد الحياة الإنسانية ومستقبل شعوبها. فضرب على هذا الموروث بطوق من حديد جعله يتنكر لكل الأعراف الإنسانية بل ويخون بكبريائه وسخريته الأمانة العلمية. فنهل من علوم السابقين ونسب إلى نفسه كل الابتكارات دون أن يعترف بفضل الأولين متناسيا أن ما وصلت إليه إنجازاته فيه نصيب كبير من إرث الماضي. فكان ذلك كافيا لفرض قطيعة جذرية مع الماضي قصد صنع مستقبل مبهم تساق فيه العلوم إلى واقع تملي توجهاته مطامع الإنسان وغرائزه.

في ظل هذا التوجه الخانق ظهر عالم متقدم يستحوذ على كل شيء وعالم متخلف سمي عالما ثالثا عالة على من سواه. وبسبب هذا التوظيف المفرط للبحوث العلمية في خدمة مطامع السيطرة والتسلط حلت بالعالم نكستان أثرت في مصيره تأثيرا عميقا : الأولى تجلت في حدوث الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين أنتجتا تصاعدا مهولا لم يسبق له مثيل لوسائل تدمير الأرض والإنسان، والثانية تمثلت في الاستعمار الذي خلف تدهورا خطيرا في أوضاع العالم الثالث وتناميا غير مسبوق للأحقاد الاجتماعية.

هكذا في عالم تلاشت فيه أحكام الله وحكّمت فيه المصالح والأهواء وقع تبذير الطاقات فيما لا يُجدي بنفع على البشرية كالسباق على التسلح الذي لبس الأرض غطاء نوويا قادرا على محو الحضارة الإنسانية والقضاء على العنصر البشري في هنيهة من الزمن. فلئن كان مفعول قنبلة هيروشيما وناكازاكي قد أحدث كارثة بشرية وبيئية في اليابان سنة 1945، فإن سنة 1962 شهدت توقيع بروتوكول الموافقة على صنع القنبلة النووية. فشرّع العالم لنفسه هذا العمل تشريعا جعل السباق على التسلح يتصاعد حتى بلغت ميزانيته ما يعادل عدة أطنان من المتفجرات فوق رأس كل إنسان يقطن الأرض. والعالم المتقدم مشغول ببحوثه واهتماماته بروعة التسلح بينما الملايين من سكان العالم الآخر يموتون جوعا ومرضا واضطهادا.

وها هي المؤشرات الأولى على آفة هذا التوجه العلمي المعوج بدأت تظهر من مخلفات ما أنتجته يد الإنسان الأثيمة لما كانت الانطلاقة العلمية غير رزينة والنية في العمل غير سليمة. إذ بعد انهيار المعسكر الشرقي وانتهاء الحرب الباردة وجدت الدول المصنعة نفسها والعالم معها أمام تحد كبير بسبب ما تشكله هذه الترسانات الهائلة من الرؤوس النووية من خطر على الأرض والإنسانية. فالتخلص من هذه الأسلحة صار هاجسا يوميا في حياة الناس. والفعاليات الإنسانية والبيئية كلها تطالب بإزالة هذه الآفة التي تهدد حياة الناس ومستقبل البشرية. وأخيرا أدرك العالم هذا الخطر وقرر التقليل من عدد الرؤوس النووية لكن ذلك اصطدم بعائقين كبيرين أولهما مادي حيث يتطلب تدمير رأس نووي واحد ما يزيد على المليون دولار والثاني بيئي يكمن في كيفية التخلص من النفايات المترتبة عن هذه السموم خاصة وأن المواد المشعة التي تحتوي عليها لا تتلاشى بسهولة مع الزمن وليس هناك ثمة إمكانية للتخلص منها.

هذا ما جناه العلم على البشرية لما جُرد من مقوماته الأخلاقية. فلربما وصل العلماء المسلمون في عهد إشراقهم الحضاري إلى شيء من هذه الاكتشافات قبل غيرهم لكن ما يمليه الضمير الحي وما تقتضيه ضوابط الحكمة قد يكون أوجب وأد هذه المهلكات في مهدها ضمانا لأمن الأرض وسلامة ساكنيها.

فوا أسفاه على ما آل إليه العلم لما جرد من الإيمان ويا حسرتاه على ما فرط فيه الإنسان من عطاء جامعات قرطبة وبغداد وتونس وفاس يوم كانت العلوم تشع بنورها فوق القارات الثلاث بثقافة ترتكز على دعائم الحكمة والإيمان لا على تقنيات الدمار والطغيان.  

فإذا نظرنا إلى الماضي المشرق لهذه العصور، سنجد أن العالم الإسلامي ما كان ليسبق إلى تأسيس الجامعات في القرن الثامن الميلادي لولا وجود تلك النظرة الشمولية لأبعاد الحياة المبنية على الانفتاح وتحرير الفكر من قيود الاستهلاك وإقحامه عالم الاجتهاد والتجديد والبحث الرشيد في مضامين كل إنجاز وعواقب كل إبداع. فبذلك تضاعف البحث العلمي وظهرت الفرق والتيارات المتنافسة التي ساهمت في بلورة العلوم وعملت على اكتشاف آيات الله التي هي جزء من عبادته. فاقتحم الإسلام ساحة العلوم الفسيحة على اختلاف أنواعها. واضطر العلماء لضرورة فهم القرآن وتفسيره إلى البحث في علوم الرياضيات والفلك والطب والطبيعيات والهندسة وغيرها. كما تطورت مناهج الاستقراء والاستنباط والتوثيق لما في ذلك من ضرورة لضبط العلوم وتدقيقها. واستُعمل المنهج التجريبي للاستدلال على صحة الأشياء بالملاحظة والفرضية والتجربة المستندة إلى البرهان.

وهذا هو الأصل الذي يجب أن ترتبط به الفروع. فالوقائع التي يسجلها العالم اليوم تظهر مدى احتياج العلم للدين بمد الجسور وسد الفجوات التي تفصل واقع العلم عن مساره الإنساني والأخلاقي. وهي حاجة ملحة قد تتحقق إذا التزم الباحث بعدم الركون إلى مجانية الاستهلاك العلمي والرقي بأعماله إلى حقيقة البحث المنبثق من فهم الواقع وإدراك الحق فيه وتحصيله على حقيقته. لأن الباحث بركونه إلى استيراد برامج الغير واعتمادها كنماذج جاهزة لتبرير نتائجه يكون قد استعمل الاستنتاجات التي كان من المفروض أن يصل إليها عن طريق الاستدلال مكان الوسائل المعتمدة في البرهنة والإثبات. فيكون يذلك إنما عمل على تجميع الأجزاء وتركيبها دون الإحاطة بأسرار صنعها ودقائق نظمها. مما يفوّت عليه فرصة الإحاطة بحقيقتها عبر التدرج في مراحلها ويخلق في بحثه فجوات أكثر ما تجدها تُملآ بهذه النماذج المستوردة. وهو أمر لا يستقيم العلم به ولا يتقدم إذ يُقحم العقل شيئا فشيئا عالم الجمود فيصير محكوما بعدما جعله الله حاكما ويعود تابعا وهو الذي يجب أن يكون متبوعا.

الشيء الذي يستوجب اليوم أكثر من أي وقت مضى نبذ التقليد بعرض كل معروض على محك التجربة المدققة وإخضاع كل وارد لميزان العقل والنقد البناء. فإذا تجاوز الأمر مستوى الإدراك العقلي للباحث ونكث في قلبه منه نكث فلا يقبل منه إلا بشاهدة الكتاب والسنة. وليستفت قلبه فإن العقول إذا كانت تتكامل في صناعة العلوم فإن القلوب تتفاضل في صياغة الفهوم. وما عصم الله عقلا من التقصير والزلل ولكن بالتقوى يحصن سبحانه القلوب من العلل فلا تقبل من ضرر بعلم ولا خلل.  

ولذا وجب وضع استراتيجيات موحدة تكون من أولى مهماتها العمل على إعادة تفعيل العلاقة بين أهل العلوم الدينية وأهل العلوم الدنيوية على مختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم. وكذلك العمل على تفعيل ثقافة الانفتاح على الآخر لخلق جو من الشراكة العالمية يرمي إلى الحوار الديني والتفاعل الثقافي. وهذا يتطلب وضع خطط وبرامج نوعية تصاغ على مستوى المؤسسات العلمية والثقافية والأكاديمية تكون في صلب التوجهات التنموية المرتبطة بمسيرة التطور والتحديث.     

ومن هنا أدعو العاملين في حقل العلوم العقلية والتجريبية إلى التفكر في آيات الكتاب لأنها تشكل فضاءات واسعة لبناء فكر حضاري من خلال ما تحمله أمثالها من رموز وإشارات لا تنقطع عجائبها ولا تنقضي غاياتها. فنصوص الوحي وإن لم تأت بالتفصيل العلمي لكل الظواهر فإنها دفعت بالإنسان إلى سبر أغوارها وفق الاستقامة العلمية. فلا نجد في كتاب الله تفاصيل علم الأحياء ولا ميكانيزمات فيزياء رفع السماء ولا معادلات نصب الجبال ولا آليات تسطيح الأرض. ولكن نجد فيه الدعوة صريحة إلى البحث في أسرارها بحكم قول الله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت) (الغاشية 17- 20). كما أهيب بهم لأن لا يأخذوا نصوص الكتاب والسنة فذة ويحصروا معانيها في مفاهيم العلم البشري حتى لا يخضعوا كلام الوحي لبراهين العقل، لأن ما جاءت به هذه النصوص لا يمكن للعلم البشري أن يحصر معانيه في تصوراته العقلية.

فالعلم الذي جاء به العقل لا تخرج معاني كلماته عن محدودية ألفاظها لكن علم القرآن هو أوسع من ذلك بكثير إذ يخاطب الإنسان من خلال أمثال ورموز قد تبعد كثيرا عن التصانيف المتعارف عليها في المراجع العلمية. وعليه فإذا قرأنا نصوص الوحي قراءة لفظية فذة مجردة عن أبعادها الدلالية فسنكون قد مررنا بجانبها مكبلين بمحدودية اللفظ. لكن إذا أخذناها من بعدها التأملي فسنكون قد تحررنا معها من محدودية اللفظ إلى فضاء البحث والتفكر الذي سطر كتاب الله مجالاته بين بعدي المكان والزمان في قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير) (العنكبوت 19). وهما البعدان اللذان عليهما يتأسس المختبر التجريبي الذي فيه تتم صياغة النماذج التفسيرية لعلاقة الإنسان بهذا الكون وفيه تُرسم الخطوط الموجِّهة لمصيره، ذلك المصير الذي يبقى دور العالِم فيه دورَ تدبير للحياة هو مسؤول عليه إلى يوم القيامة.

Lire aussi

FLORENCE BERGEAUD-BLACKER OU LES FANTASMES FUNESTES DE L’ISLAMOLOGIE SÉCURITAIRE

Par Roland LAFFITTE L’anthropologue du CNRS Florence Bergeaud-Blackler vient de publier Le Frérisme et ses …