من الشجر الأخضر إلى مصادر الوقود

Photo by Sebastian Unrau on Unsplash

(عبد الإله بن مصباح – جامعة ابن طفيل – المغرب)

 جاءت في أواخر سورتي يس والواقعة آيتان كريمتان بهما من المعاني الإعجازية ما لا تنحصر دلالاته بشأن ما أودع الله تعالى في نبات الأرض الأخضر من خصائص بينت دراستها العلمية أن هذا النبات يبقى هو مصدر الطاقة المحركة لكائنات الأرض.

ففي أواخر سورة يس (آية 79) يقول ربنا جل وعلا: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون). وفي أواخر سورة الواقعة (آية 76) يقول عز وجل: (أفرأيتم النار التي تورون. آنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون. نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين. فسبح باسم ربك العظيم).

 المستفاد من معنى الآيتين

يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) « أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرا نضرا ذا ثمر وينع ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار. » ويقول رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم النار التي تورون) « أي تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها ». ويقول في تفسير قوله تعالى: (ومتاعا للمقوين): « قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والنضر بن عربي: يعني بالمقوين المسافرين ». ويضيف أن القي والقواء هي القفر الخالي البعيد من العمران. »

ويقول القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون): « أن الشجر الأخضر من الماء. والماء بارد رطب ضد النار وهما لا يجتمعان. فأخرج الله منه النار، فهو القادر على إخراج الضد من الضد. »

هذه التفاسير التي تجلّى قدرة الله الخارقة على تحويل مادة الشجر من خضرة إلى نار، نجد العلم الحديث يكشف عن تفاصيلها في محطات عديدة بالتنقيب في خبايا الأرض التي تظهر أن التحول يجري على مختلف المقاييس الزمنية بدء  بإحراق يبس العود المتحول من خضرة الشجر، وانتهاء بحفظ مادة الشجر مودعة في خبايا الأرض لملايين السنين، حتى إذا استرشد إليها الإنسان وجدها تحولت إلى مخزون هائل للطاقة فأوقد منها نوره وناره وحرك بها كل مستلزمات حله وترحاله.

إذن فالطاقة الحرارية التي توقد من نبات الأرض بعد تحوله توحي بخضوع المادة النباتية لعملية تهيئ فائقة، لأن في الشجر الأخضر من الماء والمركبات المعدنية ما لا يحترق.كما أن المواد العضوية المؤصلة من هذا النبات والتي تدفن في الأرض لتتحول عبر ملايين السنين لا تصير بالضرورة موارد وقود إلا إذا نضجت وفق شروط فيزيائية وكيميائية وإحيائية دقيقة وفي ظروف متميزة أثناء مدة تحولها. وعليه فإذا استثنينا المادة النباتية الأصلية القابلة للاحتراق المباشر كالحطب والعشب، فإننا نجد المصادر الناتجة عن عمليات التحول والتي تشكل أهم الموارد المعتمد عليها حاليا في إنتاج الوقود أصبحت تظهر وكأنها هي المرادة في هاتين الآيتين بما تجليه لنا الصخور الكربونية  (الفحم الحجري والنفط) من معاني مرتبطة بهذه الإشارات القرآنية.

ولذلك جاءت كلمة (من) في الآية لتدل على أن استخراج النار من النبات إنما كان من تحويل مادته في ظروف ملائمة هُيئت لها مسبقا. وهذا دليل على أن الأمر مرهون بحصول تحول في مادة النبات الأخضر حتى يمكنه أن يصير محروقا.

ولإظهار خاصية التحول كشرط أساسي في حصول عملية الاشتعال من المادة الخضراء للشجر، جاءت في الآية الكريمة كلمة (فإذا) لتدل على فجائية الاستغلال المرتبطة بالكشف عن هذا التحول الساري في المادة الخضراء الذي يظهر كل حين بوجه يناسب أسباب الفترة التي ظهر فيها. حتى إذا كان الإنسان في الفترة التي نحن فيها، اكتشف هذا لتحول في الآبار النفطية الغائرة في عمق الأرض فاستثمرها بما أطلعه الله عليه من أسرار وتجليات كل في وقته المعلوم.

وهذا ما آلت إليه المتغيرات البشرية، إذ أصبحنا اليوم نرى أن مصادر الوقود صارت تشكل أكبر التحديات الاقتصادية في العالم. فالمناطق المنتجة للنفط صارت محط أنظار العالم، بما توحيه معالم النار الموقدة على أعمدة مضخاتها من مظاهر القوة والمكانة. وكيف لا وهي المواقد التي بها تدور محركات النقل البري والبحري والجوي. وبها تُكوّن القوة الاقتصادية والعسكرية ويصنع القرار السياسي في العالم. وهذا ما يُستشف من مضامين الآية الثانية التي لمحت إلى واقع هذا الربط القائم بين مظاهر النار التي مردها إلى الطاقة المخزنة في باطن الأرض من الشجر الأخضر (النار التي تورون) ومظاهر السرعة في التنقل والقوة في التمكن (متاعا للمقوين) التي مردها إلى فاعلية مصادر تلك النار.

 

 ما جاءت به الكشوف العلمية

 

دور يخضور النبات في نشوء الطاقة (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا)

إذا اعتبرنا النبات الأخضر الذي جعله الله قاعدة الهرم في إنتاج الغداء لكل المخلوقات هو مصدر الطاقة الأساسي لدوران دواليب الحياة، فلأن موقعه في قاعدة هذا الهرم يجعله المولد الأساسي للطاقة المحركة التي تسري في جسم كل مخلوق حي. وذلك راجع إلى دور يخضور النبات (chlorophylle) في تحويل طاقة الشمس الضوئية إلى طاقة كيماوية.

فهذا اليخضور يدخر كميات هامة من الطاقة داخل الربط القائم بين ذراته. وخلال عملية البناء الضوئي (photosynthèse) يمتص النبات من محيطه الماء والأملاح المعدنية عن طريق الجذور، ويستمد غاز الكربون وضوء الشمس بواسطة الأوراق. فتتحلل جزيئات الماء إلى ذرات أوكسجين وهيدروجين ثم تلتحم ذرات الهيدروجين مع محلول الكربون لتكوّن هيدرات الكربون  (CH-CH….). بينما يُسرح الأوكسجين في الهواء. فتتآلف جزيئات هيدرات الكربون في ترتيبات كيماوية تفضي إلى تكوين السكريات الشاحنة للطاقة.

وباعتبار العوالق البحرية (plancton) التي منها تتبلور المادة العضوية الأساسية لنشوء النفط تتغدى على النبات الأخضر، فإن مادتها تتبلور انطلاقا من نفس المصدر لتدخر من جزيئات هيدرات الكربون ما يمكنها من تحصيل الطاقة الضرورية لحياتها. فإذا توقفت حياة هذه الكائنات وحُفظت بقاياها في وسط بحري مغلق يحول دون تأكسدها، ثم دفنت تحت طبقات رسوبية غير نافذة وفي ظروف حرارية متصاعدة، نضجت مادتها العضوية لتصير خلال ملايين السنين مصدرا للبترول والغاز الطبيعي.

وهكذا نجد أن هذا الكساء الأخضر الذي أوجده الله سبحانه وتعالى على ظهر هذه البسيطة، كما أنه المصدر الأساسي للغداء، فكذلك هو المصدر الرئيسي لإنتاج الطاقة. ولولا عملية البناء الضوئي التي تستعمل اليخضور في تفاعلها لما كانت هناك طاقة ولانعدمت الحياة من على الأرض.

فالبناء الضوئي الذي خص الله به النبات الأخضر هو صلة الوصل بين العالم العضوي والعالم المعدني. ويتجلى ذلك في عملية صنع مواد عضوية معقدة تتمثل في السكريات الشاحنة للطاقة انطلاقا من مواد بسيطة تتمثل في الماء ومعادن تربة الأرض، ثم غاز الكربون وأشعة الشمس. وهذا سر من أسرار عالم النبات يظهر في مادته الخضراء التي بواسطتها تتبلور العناصر الشاحنة للطاقة.

 

 تخزين الوقود في طبقات الأرض

يعد الفحم الحجري نتاج عملية تكدس لبقايا غابات الأزمنة الجيولوجية الغابرة في وسط أحواض رسوبية مغلقة نشأت منذ مئات الملايين من السنين. أما النفط فهو ناتج عن عدد من التحولات في المواد العضوية المتكدسة في الصخور الطينية السوداء المتوضعة في الأحواض الرسوبية البحرية المغلقة. هذه المواد إذا طمرت تحت طبقات رسوبية سميكة وعديمة النفاذية، نضجت بعد ملايين السنين بفعل الحرارة المتصاعدة لباطن الأرض، فصارت هيدروكربونات تُحفظ في خزانات طبيعية غالبا ما تكون ناتجة عن انكسارات بنيوية أو جيوب باطنية ناجمة عن عمليات تعرية محلية هيئت القاع الرسوبي لاستقطاب النفط تحت غطاء طيني يمنع تسربه أو تبدده في الطبقات العلوية.

ويمكن تجسيد هذا المشهد على أرض الواقع من نموذج البحر الأبيض المتوسط الذي تعطي مواصفاته الجيولوجية مؤشرات قوية  على وجوب استغلال النفط بهذا الحوض نظرا لما تكشف عنه طبقاته الرسوبية من معطيات تترجم حقيقة خضوع الحوض خلال مراحل تطوره للشروط المخولة لتنشئة المحروقات وتخزينها. ففيما يخص الصخرة الأم، أظهرت الأبحاث في أعماق البحر (1)، وخاصة في الشواطئ الإيطالية عن وجود مدخرات هامة من المواد العضوية محفوظة في عمق جزر البليار وسردينيا وغيرها. وأما عن ظروف تخزين هذه المواد وتحويلها فقد بينت نفس الدراسات أن المواد العضوية المخزنة تحت غطاء الملح السميك تخضع باستمرار لتحولات حرارية ملائمة لنشوء النفط. بحيث تُظهر القياسات الحرارية في عمق الرواسب درجة نضج للمادة العضوية تزداد في المناطق التي تنشط فيها الصدوع والانكسارات، حيث الاحتكاك بين الكتل الصخرية.

هذا الغطاء الملحي الذي يلبس جزءا كبيرا من أرضية الحوض المتوسطي هو ناتج، كما ذكر البروفيسور الياباني Hsu من المعهد الفدرالي للتكنولوجيا بسويسرا (2)، عن فترة جفاف هامة شهدها الحوض قبل خمسة ملايين سنة، من جراء انغلاق ممر جبل طارق وتبخر مياهه في الأجواء الحارة لتلك الفترة التي أدت إلى تركيز الملح بشكل هائل (3) وتوضعه في طبقة سميكة بقاع الحوض. فنجم عن هذا الوضع حدوث كارثة بيئية أسفرت عن إقبار كم هائل من الكائنات البحرية في قاع الحوض الذي لُبّس طبقة سميكة من الملح والطين غطت كميات هائلة من البقايا العضوية. فعُرفت تلك الفترة من تاريخ البحر الأبيض المتوسط بأزمة الملح (4).

إلا أن الظاهرة كانت غالبة على الجهة الشرقية للحوض، بينما خف وطؤها عن الشطر الغربي الذي بقي منفتحا على المحيط الأطلسي، حيث أكدت لنا تصنيفات الحيوانات المجهرية التي تعرفنا عليها في رواسب السفوح الجنوبية للريف بالمغرب، خلال هذه الفترة (5)، عن بقاء هذه المنطقة تحت تأثير مياه المحيط رغم جفاف الجزء الأكبر من حوض البحر الأبيض المتوسط.   

وهذا يظهر أن هذه المواد الهيدروكربونية التي تعتبر أساس مصادر الطاقة، لولا أن هيأ الله لها هذه الظروف الملائمة تحت قيعان البحر، في طبقات أرضية جد كثيمة وحفظها مخزنة في جيوب غير نافذة، لسُرّحت طاقتها ولتسربت مادتها وتبددت. فسبحان الذي جعل لكل شيء قدرا وأجّل كل موقوت إلى أجله. الذي أنزل القرآن الكريم ليخاطب الناس على قدر عقولهم ومستوى مداركهم. فلما فسر المسلمون الأوائل ما جاء في الآية بخصوص إيقاد النار من الشجر الأخضر وقفوا في تفسيرهم عند حد الاشتعال المباشر للنار من خشب الشجر. وذلك بما أدركوا من علوم زمانهم. إلا أن تطور المعرفة وتقدم الاكتشافات بينا أن معنى الآية هو أكبر من أن ينحصر في هذا المعنى. بحيث أثبتت المعطيات العلمية الحديثة أن غالب المصادر المعتمدة حاليا في إيقاد النار من فحم حجري ونفط وغيرها، هي في واقع الأمر منشآت تأصلت مادتها من خضرة الشجر التي أودع الله مخلفاتها في باطن الأرض وحفظ فيها سبحانه من الفاعلية ما شاء إلى أجله المسمى. حتى إذا استوفت أجلها آتت أكلها فأمدت الإنسان في الوقت المناسب بالمنتوج المناسب الذي خصصه الخالق لتلك الفترة المقدرة بمتطلبات أهلها ومستلزمات معايشهم.

فكانت تلك المصادر من النعم الباطنة التي لم يظهرها الله عز وجل للإنسان إلا في القرون الأخيرة حيث وجهه إلى اكتشافها في أمريكا في القرن التاسع عشر الميلادي ليمتد استثمارها بعد ذلك إلى باقي العالم ويعم نفعها سائر العباد. وذلك مفهوم وظيفة التسخير التي يُجلّي بها الخالق كل منفعة في وقتها المعلوم، تمشيا مع سنة التطور التي أقرها سبحانه في خلقه.

فلما سبق في علم الله الذي لا يحده زمان ولا مكان أن الإنسان سوف يصل في يوم من الأيام إلى عصر من السرعة لم يسبق له مثيل، وسوف تتطور أسباب حياته تطورا يستلزم وسائل تواكب هذه السرعة، أبقى له سبحانه هذه المدخرات من الطاقة خاملة في جوف الأرض إلى أن فجرها له في وقتها المناسب.

ولذلك فالآية لما ضُمنت عبارة (فإذا أنتم منه توقدون)، التي تفيد الدلالة على سريان استثمار الوقود من مصدر الشجر الأخضر، أضفت على هذا الاستغلال صفة التدرج المرتبط بتطور مدارك الإنسان وتعقد أسبابه. بحيث ابتدأ الإنسان بالاستعمال المباشر لخشب الاحتراق من حطب وعشب ، ثم اهتدى إلى ما خلفه تراكم بقايا الشجر من فحم حجري في ثنايا الأرض، إلى أن كشف أخيرا عن آبار النفط المتبلورة مادتها في طبقات الأرض انطلاقا من خضرة الشجر. وهذا دليل على إعجاز الآية التي تبقى على امتداد الزمان دالة على عظيم صنع الله ودقة تدبيره. فالذي سخر للإنسان هذه الثروات، كما أنه جعلها له متاعا في الدنيا، فكذلك جعلها تذكرة له بالآخرة من خلال سر وصفها له في كتابه الكريم ببلاغة علمية تجعل الذاكر، إن هو تدبر معناها بحس علمي سليم، حصل له اليقين بأن هذا الوصف لا يمكن أن يكون له مصدر قبل أربعة عشر قرنا إلا الله الخالق الذي أنزل هذه الآيات بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم، لتكون من صميم تعهده سبحانه وتعالى بحفظ كتابه العزيز، وإظهاره معجزا لأهل كل وزمان.

 

المراجع البيبليوغرافية

(1) MARS C. (1988) : Sous le sel, l’or noir. Nice matin, 27 sept. 1988.

 (2) HSU K .J. , MONTADERT L., BERNOUILLID., CITA M.B., ERIKSON A., GARRISON R.E. , KIDD R.B., METIERES F., MULLER C. & WRICHT R. (1978) : history of the Mediterranean salinity crisis. In << Hsu K.J., Montadert L. Et al. Rep. Deep sea Drill. Prof.>>, 42, Washington : 1053-1078.

(3) ROUCHY J.M. (1982) : La genèse des évaporites messiniènnes de Méditerranée. Mém.  Mus. Natn. Hist. Nat., 50, Paris, 267p.

(4)  CITA M.B. (1979) : Quand la Méditerranée était asséchée. La recherche, 107, Paris : 26-36.

(5) BENMESBAH A. (2000) : Place des Rides sud-rifaines par rapport au domaine méditerranéen au Messinien. XI Congress of regional committee on mediterranean neogene stratigraphy. Fes 27-30 sept. 2000, p. 75.

 

Lire aussi

L’ORGUEIL ET LA SURESTIME DE SOI, PAR CHEIKH OMAR DOURMANE

L’orgueil est une maladie qui peut atteindre les êtres humains, mais aussi les groupes ou …