الكعبة رمز الوسطية في الكون (عبد الإله بن مصباح – جامعة ابن طفيل – المغرب)

في المقالة السابقة رأينا كيف تحتل الأرض مكانة مركزية في الكون، وفي هذه المقالة سنرى كيف أن الكعبة من خلال توسطها للأرض تكون في محور الوسطية من الكون.

فمن خلال قراءة علمية في إشارة القرآن الكريم إلى كمال البناء في مماثلة الأرض للسماء المتجلية في قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) (الطلاق 12) والتي تحمل في معناها إشارة إلى أن الأرض هي أيضا سبع أرضين، ثم من خلال استحضارنا للآيات القرآنية التي أشارت إلى عدد السماوات والأرض، فسنجد سر وسطية الأرض لعالم السماوات كامنا في عمق الحساب العددي الذي ذكرت به ظاهرتا خلق السماوات والأرض. فذكر خلق السماء في سبع سماوات ورد في القرآن الكريم سبع مرات:

1 – في قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات) (البقرة 29).

2 – في قوله تعالى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) (المؤمنون 17).

3 – في قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) (فصلت 12).

4 – في قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) (الطلاق 12).

5 – في قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقا) (الملك 3).

6 – في قوله تعالى: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا) (نوح 15).

7 – في قوله تعالى: (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) (النبأ 12)

أما ذكر خلق الأرض في سبع أرضين، فلم يرد في القرآن الكريم سوى مرة واحدة في سورة الطلاق معطوفا بمثل العدد على خلق السماوات السبع، وذلك في قوله تعالى: (ومن الأرض مثلهن) التي نجد ذكر الأرض فيها ورد أيضا في الموقع السابع من كلمات الآية. وهذا يحمل إشارة قرآنية إلى كمال البناء في عالم السماوات والأرض لأن السبعة عند الحكماء عددٌ كامل.

وبذلك فإذا تناولنا العدد الذي ذكرت به ظاهرة خلق السماوات السبع وهو سبعة، وتمعنا في الموضع الذي ورد فيه ذكر خلق الأرضين السبع وهو مرة واحدة، وجدنا أن هذا الأخير وقع في وسط الترتيب القرآني الذي ذكرت به ظاهرة خلق السماوات السبع، أي في الموضع الرابع الذي تتماثل حوله الستة الأخرى في ثلاثة أزواج متناظرة إذا جمعنا عددي كل زوج منها ثم قسمنا الحاصل على العدد اثنين الذي هو أصل الأزواج أعطتنا العملية في كل مرة العدد أربعة الذي هو موضع الأرض في وسط الترتيب السماوي. فما الذي تستبطنه هذه الإشارات من خفايا وما الذي يمكن استجلاءه من كمال البناء في عالم السماوات وتوسط الأرض لها في ترتيب الآيات ؟

إذا سبرنا أغوار التشكيلة الباطنية للأرض، فسنجد أن الأرض تتكون من سبع طبقات كروية تتراكب بعضها على بعض. ولكل طبقة سمكها وتركيبها الخاص. هذا التطابق الكروي للأرض، برزت خصائصه للباحثين في علم الجيولوجيا من خلال قياسات جيوفيزيائية غير مباشرة لباطنها. وذلك عن طريق إرسال موجات اهتزازية تخترق باطن الأرض ثم التقاط صداها بعد انعكاسها من مختلف الطبقات الأرضية في شكل إصدارات لذبذبات تسري إلى السطح بمستويات تتوافق وطبيعة التركيبة الفيزيائية والكيميائية لكل طبقة. فتبين من خلال ذلك أن الأرض مكونة من سبع طبقات تتراكب من السطح إلى الباطن في الترتيب التالي:

1 – القشرة الأرضية وتكون النطاق العلوي من الغلاف الصخري للأرض. (5-8 كلم من صخور البازلت تحت البحار و60 إلى 80 كلم من صخور الجرانيت تحت القارات.)

2 – النطاق السفلى من الغلاف الصخري للأرض (lithosphère) وهو موجود فوق نطاق الضعف الأرضي ويحده من الأعلى خط انقطاع الموجات الاهتزازية المسمى موهو (Moho).

3 – النطاق العلوي من الغطاء الأرضي (Asthénosphère) المسمى بالوشاح العلوي والمعروف باسم نطاق الضعف الأرضي لما به من لزوجة عالية وانصهار لصخوره. ويمتد إلى عمق 400 كلم.

4 – النطاق الأوسط من الغطاء (الوشاح الأوسط). ويكوّن طبقة صلبة تمتد إلى عمق 700 كلم حيث يوجد أحد مستويات انقطاع الموجات الاهتزازية,

5 – النطاق السفلي من الغطاء (الوشاح السفلي). ويحيط بالنواة السائلة للأرض بفاصل خط انقطاع الموجات الاهتزازية المعروف باسم جوتنبرغ (Gutenberg) الواقع على عمق 2900 كلم.

6 – الطبقة السائلة للنواة التي تجري فيها المعادن المنصهرة إلى عمق 5170 كلم.

7 – الطبقة الصلبة للنواة وهي لب الأرض التي يتركز فيها الحديد بدرجة فائقة مع النيكل.

وعليه فالإشارة التي جاءت بها الآية 12 من سورة الطلاق في شأن مثيلات السماوات السبع من الأرض قد تكون هذه الطبقات السبع من الأرض. وهو المعنى الذي ذهب إليه كثير من المفسرين استنادا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح (2322)، والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين).

وهنا نلاحظ أننا كما وقفنا على توسط الأرض لعالم السماوات من خلال الاستقراء الحسابي للعدد سبعة، فكذلك نجد توسط النواة الصلبة التي هي قلب الأرض لباقي الطبقات الأرضية يصوغه موقع الحديد الذي يتركز فيها والذي جاءت الإشارة إليه في سورة تتوسط في ترتيب المصحف عدد سور القرآن الكريم ألا وهي سورة الحديد التي تأتي في الموقع 57 من أصل 114 سورة المرتبة في كتاب الله.

هذا  التراكب الكروي لمستويات الأرض في سبع طبقات يمكن تلمسه في الصيغة الأخرى التي جاءت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة). والتطويق هو الإحاطة الشاملة المغلقة من جميع الجهات. الشيء الذي يوحي بكروية الطبقات الأرضية حول الأرض السابعة السفلى في تطابق مغلق يجعل هذه الأخيرة في قلب الكرة الأرضية محاطة بالست الأخرى من جميع الجهات.  وهو ما يمكن استنباط معناه أيضا من بقية الآية التي انطلقنا منها وبالضبط من قوله سبحانه: (يتنزل الأمر بينهن) الذي كما فسره القرطبي رحمه الله أن المراد من قوله تعالى (بينهن) « إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها ».

وهكذا من خلال قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء) (غافر 64) يتضح لنا مضمون قرار الأرض بطبقاتها السبع من مفهوم البناء السماوي المحيط بها في شكل وحدة  متماسكة بين كتلتين لا ينبغي لأي واحدة منهما أن تزول عن الأخرى كما قال سبحانه في محكم التنزيل: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده. إنه كان حليما غفورا) (فاطر 41) في إشارة إلى أن الأرض هي في قلب ذلك البناء الكوني محاطة بطبقات السماوات السبع التي يتنزل الأمر بينهن إلى أن يصل إلى الأرض السابعة السفلى التي هي القلب المحرك لها، كما يوحي أيضا بأن وسطية الأمة الواردة في قول الله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (التي جاءت هي أيضا في وسط سورة البقرة، الآية 143 من مجموع آياتها التي هي 286) والمستوحاة من توحد الأبعاد في الدلالة على تواجد الكعبة في وسط الأرض بل وفي محور الوسطية من الكون، هي قائمة على هذه الوسطية في المنشأ وفي كل محطة من مراحل التكوين منذ أن خلق الله السماوات والأرض حيث كان الإنسان منذ تلك اللحظة في لب القصد من كل ذلك. فكأن أطوار ذلك التسلسل العجيب الذي بدأ الكون بدخان ثم نظمه في مجرات تموضعت الأرض في وسطها لتفرز الماء من جوفها وتكوّن غلاف جوها ثم ترسي الجبال على سطحها وتخصب التربة التي منها انبثقت الحياة على ظهرها، كل تلك الأطوار لم تكن سوى حلقات متكاملة تسلسلت تمهيدا لمجيء الإنسان الموكّل إليه خلافة الأرض، الذي من أجله جاء الخطاب الإلهي متمما للآية التي جعلناها في مطلع هذه المقالة بقوله تعالى: (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما).

وهكذا إذا رجعنا إلى مختلف مراحل المد القاري للأرض الذي نجم عن زحزحة القارات والذي أدى إلى التوزيع الحالي للقارات ورسمنا دائرة على خريطة الأرض نجمع فيها كل القارات وجدنا مركزها في الكعبة. كما أننا إذا عالجنا هذا المعطى من شكل الكعبة المكعب فسنجده دالا على نفس المعنى. فنحن نعرف أن المكعب هو أصل النظام البلوري المكون لكل مادة صلبة على وجه الأرض لأن فيه تتساوى كل المحاور المتقاطعة في جميع الاتجاهات الكونية. الشيء الذي يخول للمكعب صفة الكمال في التماثل. والكعبة بشكلها المكعب تجسد هذا المعطى بستة أضلع متماثلة كل ضلع متجه إلى جهة معينة من جهات الكون: الأول إلى السماء والآخر المقابل له إلى الأرض والأربعة الباقية يتقابل فيها الشمال الشرقي مع الجنوب الغربي والشمال الغربي مع الجنوب الشرقي، بينما تتجه الأركان العمودية التي فيها تتقاطع خطوط هذه الأضلع نحو الاتجاهات الجغرافية الأربعة الأصلية للأرض مشكّلة من الكعبة نقطة تحديد لمطلق الاتجاهات الكونية. وتلك ذروة الكمال في الزوجية يعبر عنها التماثل القائم في الكعبة بين أضلعها وكذلك بين أركانها إذ ليس هناك بعد في الكون إلا وتوجهت إليه. فكانت من أجل ذلك هدى للعالمين كما وصفها الله عز وجل في قوله: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) (آل عمران 96).  وهذا المشهد يتضح أكثر إذا ما عالجناه من زاوية البعد الزمني لنشوء الأرض وامتدادها المستمد من كشوفات العلم الحديث، تلك الكشوفات التي جاءت نتائجها موافقة لنصوص الوحي. فقد جاء في النهاية في غريب الأثر (2/34) (964) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كانت الكعبة خُشعة على الماء فدحيت منها الأرض).

هذا الحديث إذا تلمسنا فهمه من خلال المعطيات الجيولوجية الحديثة فسنجده دالا بالحس والمعنى على أن الكعبة تبقى النقطة الأولى المرشحة لبزوغ اليابسة ثم امتدادها في أرجاء البحر الكاسح عند بدء التكوين. خاصة وأن الخشعة كما جاء في نفس المصدر تعني « أكمة لاطئة بالأرض، والجمع خُشع، وقيل هو ما غلبت عليه السهولة، أي ليس بحجر ولا طين. » وفي هذه المواصفات لكلمة خشعة التي نجد لها سندا علميا في التصنيف الجيولوجي لميكانيزمات نشوء وتبلور سطح الأرض، نلمس تلميحا إلى أن الكعبة قد تكون أول أكمة انبثقت من باطن الأرض المنصهر، حتى إذا ما برزت على السطح المغمور بالمياه وهي في مرحلتها الجنينية لزجة، دُحيت منها اليابسة فانتشرت القارات. وهو المشهد الذي يعززه تفسير القرطبي لقوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) (البقرة 127)، حيث قال رحمه الله أن مجاهدا قال: « خلق الله موضع البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وأن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى ». ذلك التفسير الذي يتصل بما سبق أن قلناه حول انبثاق الكعبة كأول أكمة من باطن الأرض المنصهر على سطحها المغمور بالمياه عند بدء التكوين. مما جعل أرض مكة تسمى في كتاب الله بأم القرى أي الأصل الذي تفرعت منه كل البراري على سطح الأرض.

فإذا أقررنا بأن الكعبة في وسط الأرض علما بأنها تقابل في السماء البيت المعمور كما دل على ذلك البيان الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جاء في معرض تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (والبيت المعمور) (الطور 4)، حيث قال رحمه الله: « قال قتادة والربيع بن أنس والسدي: ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: (هل تدرون ما البيت المعمور)؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: (فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم)، فإننا سنقر بأن الكعبة توجد في محور التواصل مع البيت المعمور. ذلك المحور الذي حوله تتماثل منظومة الكون في سجود وتسبيح لخالقها الذي جاء كتابه معجزا في وصفها، بحيث إذا تأملنا في مشهد السجود من محفل الساجدين حول الكعبة فسنجده يجسد تماثلا منسجما مع التماثل الحاصل حول محور التواصل بين السماء والأرض، ذلك التماثل الذي يسري في كل مكونات الكون من الذرة التي تتماثل فيها الإلكترونات حول النواة إلى المجرة التي تتماثل فيها الكواكب حول الشمس في إشارة إلى وحدة السجود الني عمت كل الوجود. كما أننا إذا تأملنا في مشهد الطواف من موكب الطائفين حول الكعبة فسنجده يمثل تجسيدا للجذب والاستقطاب الذي يحصل لكل شيء حول أصله. فالكعبة بموقعها الجذاب الذي يجعل أفئدة الناس تهوي إليها يطوف حولها الطائفون بقلوب مستقطَبة نحوها لأنها تشكل الأصل الذي منه تفرعت الأرض أمّ الإنسان، تماما كما تشكل النواة التي حولها تحوم الإلكترونات في نفس اتجاه الطواف الأصل الذي تشكلت منه الذرة، وكما تشكل الأرض التي حولها يدور القمر في نفس الاتجاه منجذبا إليها الأصل الذي منه انفصل القمر، وكما تشكل الشمس التي حولها تدور الأرض في نفس الاتجاه الأصل الذي منه انبثقت الأرض. إلى غير ذلك من المشاهد التي تعبر عن أن الإنسان في لحظة السجود والطواف وغيرهما من العبادات يكون يترجم أسمى عبارات الارتباط بالأصل من خلال طلبه التحرر من رق الذات والعروج في شوارق الصفات. تلك الصفات الموصلة إلى الله عز وجل التي سرها من أصل تلك النفخة الإلهية التي بثها سبحانه من روحه في كيان الإنسان من يوم خلق آدم واستخلفه في الأرض.

Lire aussi

L’ORGUEIL ET LA SURESTIME DE SOI, PAR CHEIKH OMAR DOURMANE

L’orgueil est une maladie qui peut atteindre les êtres humains, mais aussi les groupes ou …

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *