عبد الإله بن مصباح – كلية العلوم – جامعة ابن طفيل
نظرا لما بدأت تثيره اليوم معضلة التغيرات المناخية من أخطار تهدد معايش الإنسان وتمس استقرار بيئاته الطبيعية، تلك المعضلة التي يوجد الإنسان في صلب موضوعها كمسؤول عنها ومتحمل لعواقبها، ثم نظرا لكون العلوم اليوم لا تستطيع الإجابة عن كل التساؤلات المطروحة حول هذه المعضلة، وإنما التفسيرَ لبعض ظواهرها وإعطاء التنبؤات واقتراح بعض الحلول التي تبقى في مجملها جزئية، ارتأيت أن أقدم نموذج المروج كبيئات طبيعية ساحلية تخضع من جهة لتأثير هذه التغيرات المناخية ثم تتطور من جهة أخرى تحت تأثير ظروف يطغى عليها عامل الهشاشة البيئية. هذه الهشاشة تتجلى في الوضع الناجم عن عدم استقرار المكونات الناتجة عن تلاقي مياه من أصول مختلفة برية وبحرية، وما يترتب عن ذلك من اضطرابات على مستوى منقولاتها الرسوبية التي تشكل قاعدة الأساس لنمو وتبلور الحياة في أوساطها المائية.
فهذه المروج الشاطئية تغطي أكثر من عشر مساحة الشواطئ العالمية. وتتميز عن غيرها من البحيرات والبرك المائية بوجود حاجز رملي يعزل المرجة نسبيا عن البحر الذي تظل متصلة به عن طريق ممر مائي محدود الاتساع يزودها بالمياه المالحة، وبتلقيها مياها عذبة من الجهة البرية. هذا التلاقي بين مياه مالحة مزودة بمواد بحرية وأخرى عذبة محملة بالرواسب القارية يجعل من هذه المروج مناطق هامة لتبلور المادة وتبادل الطاقة بين عالمي البر والبحر. الشيء الذي يُخضع تطورها لتغيرات سريعة تطبع هذه الأماكن من الأرض بحساسية شديدة وهشاشة كبيرة.
فإذا عدنا إلى تاريخ تكون هذه المروج وجدناه مرتبطا بفترات التغيرات المناخية التي شهدتها الأرض والتي تزامنت مع ذوبان الكتل الثلجية وارتفاع منسوب البحار عند نهاية الحقب الجليدية التي تعاقبت على سطح الأرض والتي كان آخرها في عصر الهولوسين أي قبل ما يناهز 8000 سنة من زماننا. إلا أن الأرض في هذا العصر عالجت هذه التغيرات بفضل تلك الفاعلية الذاتية التي بثها الله فيها، بحيث أنشأت مروجا شاطئية على مساحات معينة من سواحلها المنخفضة لتحويل الزائد من ارتفاع مياه البحر إلى مد أفقي على أطراف البر.
فكون أن هذه المروج تكونت وفقا لهذا المنظور تحت تأثير عامل المد البحري الذي عرفته الأرض في تلك الفترة ، فذلك يعني أنها جاءت استجابة لمبدأ التوازن الذي لا ينبغي أن يختل بين البر والبحر، وذلك في سياق النظام العام الذي بموجبه تعمل الأرض على إعادة ترتيب نُظمها تمشيا مع سنة التطور التي تسري على بيئاتها الطبيعية.
فإذا نحن لم نتخذ التدابير اللازمة للحد من ظاهرة التكدس الرسوبي الذي تشهده هذه المروج في خضم ما تعرفه الأرض اليوم من ارتفاع لمستوى البحار الناتج عن الاحتباس الحراري الناجم عن التغيرات المناخية فإن امتلاءها بالرواسب سيؤدي إلى انغلاقها على البحر وتحولها إلى أراضي يابسة، مما سيحدث خللا في النظام الطبيعي العام للمناطق الساحلية. فبدلا من أن تمتص هذه المروج ذلك الزائد المحتمل من مياه المحيطات المتزايدة كما فعلته عند نشأتها، ستسيح هذه الأخيرة على الأراضي الشاطئية محدثة بذلك أضرارا بالمنشآت والأراضي الفلاحية، بل وحتى بفرشات المياه الباطنية المتاخمة للحدود الشاطئية نظرا لزحف الخط الشاطئي داخل المجال القاري وولوج الفرشة المالحة في العذبة ملوثة بذلك مياهها بملوحة المياه البحرية.
ولفهم طبيعة هذه الهشاشة وإدراك أبعادها، سنقف بالمعالجة والتحليل على المرجة الزرقاء بمولاي بوسلهام الواقعة في الجزء الشمالي لسهل الغرب المطل على الساحل الأطلسي للمغرب كنموذج لهذه البيئات.ففي هذا الوسط، نجد الرواسب المنقولة من البر عبر الأنهار ومن البحر عبر الممر، تتراكب في متتالية يترجم تسلسلها الزمني من الأسفل إلى الأعلى تراجعا من رمال كلسية بحرية إلى طين وأوحال قارية. الشيء الذي يترجم تطورا عبر الزمان لهذه المرجة من ظروف بحرية إلى واقع تطغى عليه المؤثرات القارية. مما ينعكس سلبا على حياة الكائنات بحالة من عدم الاستقرار مرتبطة أساسا بعدم استقرار تربة قاع المرجة التي لا تكاد الرواسب تتماسك فيها حتى تجرفها التيارات المائية. وهذا يُظهر مدى هشاشة الظروف البيئية التي تميز هذا الوسط.
هذه الاضطرابات التي سجلناها من خلال معاينتنا الميدانية لآليات العمل في هذه المرجة التي هي بمثابة محطة تعمل على التصفية الميكانيكية للرواسب والتسوية الكيميائية لمكونات المياه العابرة بين مجالي البر والبحر، تَظهَر تداعياتها على مستوى مجالها المائي الذي هو اليوم في تراجع مقلق نظرا لما تسجله المرجة من تكدس للرواسب الآتية من حمولات الأنهار. هذا التكدس الذي ينذر بامتلاء المرجة بالرواسب وتحولها إلى أرض يابسة، بعدما كانت على لائحة المناطق الرطبة المعترف بها عالميا، له ارتباط مباشر بظاهرة السيول التي قد تكون ذات صلة بما تحدثه التغيرات المناخية على المستوى العالمي، إلا أن تمة عوامل بشرية زادت في تأجيجه كاقتلاع الغابات وما صاحبه من تدابير التهيئة التي جعلت مساحات ترابية كثيرة معرضة للتعرية.
فكيف تتجلى هذه الإشكاليات على واقع هذه المرجة وما الإشارات التي تحملها بخصوص مفهوم ظاهرة المرْج ؟المرْج من فعل مَرَج الذي يفيد اصطلاحا اختلاط جسمين مختلفين دون ذوبان خصائص كل منهما في الآخر ومنطقة المرج تسمى مرجة والجمع مروج. وتوجد هذه المروج في أماكن التقاء مياه البحار مع مياه الأنهار إذ تتميز عن غيرها من البحيرات والبرك المائية بوجود حواجز طبيعية تعزلها نسبيا عن البحر الذي تظل متصلة به عن طريق ممر مائي محدود الاتساع يزودها بالمياه المالحة وبتلقيها مياها نهرية عذبة من الجهة البرية. هذا التلاقي بين مياه مالحة مزودة بمواد بحرية وأخرى عذبة محملة بالرواسب القارية يجعل من هذه المروج مناطق هامة لتبلور المادة وتبادل الطاقة بين عالمي البر والبحر. الشيء الذي يُخضع تطورها لتغيرات سريعة تطبع هذه الأماكن من الأرض بحساسية عالية وهشاشة كبيرة.
هذه الخصائص عايناها في المرجة الزرقاء بمولاي بوسلهام1 التي تمتد على مساحة 30 كلم مربع، ويبلغ عمق مياهها ما بين مترين إلى بضعة سنتيميترات (الصورتان 1 و2). فهذه المرجة تتلقّى مياها عذبة من نهري الضراضر والناظور ومياها مالحة من المحيط الأطلسي، لكنها لا تعرف ذوبانا لخصائص كل من هذه المياه في بعضها. بل تسجل نوعا من التناضد (stratification) يتجسد في شكل طبقات مائلة متمايزة عن بعضها، تتراكب في تناقص تدريجي للملوحة باتجاه الطرف النهري للمرجة. بحيث تنحدر الطبقات المائية الأكثر ملوحة المتاخمة للممر البحري إلى عمق المرجة نظرا لارتفاع كثافتها. بينما ترتفع الطبقات المائية الأقل ملوحة المتواجدة إلى الطرف النهري للمرجة فوق الكتل المائية المالحة نظرا لضعف كثافتها. فينتج عن هذا الوضع جريان للمياه يجعل الطبقات المائية العليا تساق في اتجاه البحر، بينما تتحرك المياه السفلى الأكثر ملوحة نحو وسط المرجة. وهكذا تظل هذه الكتل المائية رغم تداخلها غير متساوية، محتفظة كل منها بدرجة ملوحة خاصة، لا تبغي إحداها على الأخرى مهما تغيرت حركات المد والجزر من الجهة البحرية، أو صبيب الأنهار من الجهة البرية.
الصورة 1: المنطقة البرية للمرجة المؤدية إلى المياه النهرية