الأرض … ذلك الكائن الحي المسبّح

عبد الإله بن مصباح – جامعة ابن طفيل – المغرب

من علامات الإعجاز في آيات الأرض، أنك تجدها تتضمن جملة إشارات إذا تدبرت في معانيها وجدتها بالغة الدلالة في تعبيرها عن تطابق آيات الكتاب مع آيات الكون. كما أنك تجد الأحاديث النبوية المتصلة بموضوعها تتضمن أسرارا وتنبؤات إذا تأملتها وجدتها مفاتيح لألغاز حيرت وما تزال فكر الإنسان ومعرفته. فهذه الآيات والأحاديث التي تنبئ أسرارها بدبيب الحياة في كل مكونات الأرض من الذرة وأصغر من ذلك إلى الجبل وأضخم من ذلك تعكس عالم الشهود الذي يضيء بنور الله المتغلغل في كل الوجود. فإذا أنت تحققت من يقينيات الأرض، فإنك لن تجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ما يناقض حقيقتها أو يعارض دلالاتها، بل تجد في هذه اليقينيات ما يزيدك يقينا بأن الكون هو كتاب يقين، وبأن القرآن والسنة هما الشاهدان على ذلك. فإذا تعمقت في هذا المنحى وأردت استجلاء معانيه من خلال ما أدرك فهمك من حقائق علمية في عالم الأكوان، وجدته يتجلى في أكثر من لوحة فيما هو مشاهد بعين البصيرة من مكونات هذه الأرض التي تشهد لك بكل ذرة من ترابها على وحدانية الخالق ودقة تدبيره لنظام الخلق.

فالمتأمل فيما ترسخه الأرض في طياتها وتحفظه في صخورها ليجد في تناسق أطوار خلقها مع تعقد أسباب الخليقة على ظهرها تعبيرا دقيقا عن مدى تجاوب الحجارة مع مكونات محيطها. وهذا التجاوب يتجلى في وجود تميّز واضح لكل من هذه الأطوار عن بعضها بحصول توازنات معقدة طبعت كل مرحلة من مراحل هذا التطور ونتجت عن تفاعل عناصر مختصة بمكونات كل فترة من فتراته.

فالحجر أول ما نشأ، نشأ في شكل صخور نارية تصلبت على سطح الأرض بعد بزوغها من صهارة باطن الأرض. وهذا لأن الأرض عند بدء تكوينها كانت عبارة عن صهارة حامية تكورت في فضاء الكون إلى أن استقر بها المقام في مدارها حول الشمس. ولغاية سبقت في علم الله شاءت قدرته تعالى أن يظل موقعها بعيدا عن الشمس، فنزلت حرارتها إلى حد تصلب معه سطحها، فارتفع سمكه تدريجيا إلى أن كوّن قشرة لبّست الأرض غلافا حفظها من خطر انتثار جوفها المثقل بالحرارة والضغط. وبفعل الطاقة الهائلة المنبعثة من صهارة باطن الأرض ظلت هذه القشرة خاضعة للتفاعلات الباطنية، فظهرت فيها تصدعات تفجرت منها أنهار الصهارة التي تدفقت عبر فتحات تحددت بموجبها التقطعات التي من فجواتها سيعمل النشاط البركاني على تكوين أولى صخور الأرض التي هي الصخور الباطنية المسماة صخورا نارية : (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) (البقرة 74).

ثم بعد ذلك بدأت التحولات تطرأ على هذه الصخور فظهرت الصخور الرسوبية وهي الناتجة عن تراكم الرواسب المجلوبة من تعرية ونقل مواد الصخور القديمة التي يعود أصلها الأول إلى الصخور النارية. فتوضّعت فوق سطح الأرض بطريقة تراكمية مكوّنة طبقات يرتفع سمكها مع الزمان ثم يهبط بفعل تكثف الصخور (compaction) تحت ضغط الحمولة التي تتوضّع فوقها والتي تطرد الماء والغازات من مسام الصخر كلما زاد ثقلها. فيهبط الصخر كلما زاد تراكمه حتى لا يزيد سمكه فيختل توازن السطح : (وإن منها لما يهبط من خشية الله) (البقرة 74).

أما إذا تعرضت كل من هذه الصخور إلى تماس مع صعود صهارة باطن الأرض الحامية، أو إلى تضاغط ناجم عن تدافع قطع السطح المتحركة، فإنها تتحول بحدوث التجفف والتشقق اللذين يؤديان إلى تحول الصخر من نوعه الأصلي إلى أنواع أخرى. وفي هذه الأنواع غالبا ما يؤذي التشقق الناتج عن الضغط أو الحرارة إلى خروج الماء من الحجارة وحدوث تغير في خصائصها بظهور تنضد (schistosité) تتراص فيه الصُّفيحات الحجرية في مساحات متراكبة بعضها فوق بعض : (وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) (البقرة 74).

ولفهم هذه الديناميكية المتحكمة في تطور بيئات سطح الأرض، يجب أن نزيل الغطاء عن التفاعلات الحاصلة بين مركبات الصخر ومحيطه الخارجي عبر مستويات ثلاثة :

– الأول : أن نوضح الجانب الفيزيائي المتعلق بعمليتي التعرية والترسب والذي تتحدد بموجبه علاقة الحبة الصخرية مع مستودعها في الماء أو اليابسة. فحبة الصخر هي خاضعة في محيطها لمجالين معاكسين للقوى: قوة جاذبية الأرض لها وقوة الدفع المترتبة عن نقلها بواسطة المياه أو الرياح. فإذا غلب هذا المجال أو ذاك وقع إما ترسب الحبة أو تعريتها.

– الثاني : أن نستوعب التفاعلات الكيميائية الحاصلة بين المحتوى الداخلي للحجر ومحيطه الخارجي والتي تفضي عند استقرار الحجر في وسطه الطبيعي إلى حصول توازن ديناميكي بين الحجر ومحيطه بفعل تبادل المادة والطاقة بينهما، مما يُحدث تحولات داخل الحجر بإعادة ترتيب نظمه في شكل يتلاءم مع متغيرات محيطه.

– الثالث : أن ندرك العلاقة المتبادلة بين المادة الصخرية والمادة الحية من نبات وحيوان وإنسان وما مدى تأثير كل منهما على الأخرى. فالكائنات الحية تنمو وتتطور متأثرة بخصائص البساط الصخري الذي ترتبط به والصخر يتغير ويتحول بدوره بفعل التأثيرات التي يلحقها به وجود هذه الكائنات فوقه أو داخله.

وعليه فلكي نعيد تقويم فاعلية الحجارة وندرك خصائص مادتها التي تلاشت مكوناتها مع الزمان وغبرت آثارها في طيات المكان، كان لابد لنا من استحضار جميع المعطيات المرسخة في بقايا الصخر والناتجة عن مختلف الأنظمة الفيزيائية والكيميائية والإحيائية التي ساهمت في تحول مادته وتطورها داخل المنظومة البيئية المتغيرة بتغير الأماكن والأزمنة. وبذلك تكون مادة الحجر التي مهدت لوجود الحياة في الظرفية الزمانية-المكانية لتواجد الحجر بمثابة شاهد على فاعلية الحجارة وتجاوبها مع المحيط البيئي الذي يحضنها، بحيث إذا أمكن فك الرموز والشفرات المرسخة في ثنايا الصخر ظهر ما كانت تستنسخه الحجارة من عمل الكائنات أثناء وجود هذه الأخيرة حية عليها نظرا للعلاقة الأزلية القائمة بين الكائن ومستقره. فما من عملٍ يُعمل فوق هذه البسيطة إلا وتحفظُه الأرض في مكوناتها وتكتُمه في ثناياها، حتى إذا قدّر الإله فنائها أخرجتُ محتوياتها وحدّثتُ بما سجلته من أخبار ساكنتها، وذلك بما أوحى لها ربها القائل في حقها: (يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها) (الزلزلة 5).

وهكذا نجد أن الحجارة التي نَعُدها جامدة هي في الأصل حية بفعل التحولات الفيزيائية والكيميائية التي تبلور مادتها الناشئة في القشرة الأرضية. هذه المادة التي هي في الحقيقة تركيبة معدنية يشكل فيها المعدن تجمع ذرات تشع كل ذرة منها بما إن فاعليته لتدل على اكتناز هذه المادة لقدر هام من الطاقة، تلك الطاقة التي تنبعث من كل صخرة في شكل إشعاعات تصنف ضمن الأشعة تحت الحمراء والتي يعتبر إصدارها قاعدة ترتكز عليها تقنيات الأقمار الاصطناعية للكشف عن سطح الأرض.

إذن مادامت مادة الحجارة مقترنة بالطاقة، أي بفاعليتها فإن الحجارة بفعل كونها الأساس في تكوين الأرض باتت أكثر دلالة على حياتها بحكم ما تنطوي عليه تفاعلاتها مع المحيط من تجليات لأثر الفاعلية الباطنية التي تسري في كيانها الدالة على حقيقة الحياة فيها. فالحجر في تركيبه المتأصل من ذرات تآلفت في هيئة بلورية والذي تشكل فيه الذرة نظاما دائريا في قلبه النواة يعبر عن نسق منسجم تمام الانسجام من نسق الكون إذ في نفس الاتجاه الذي تدور به الأرض حول محورها والقمر حول الأرض والأرض بقمرها حول الشمس والشمس بمجرتها في فلك الكون تحوم الإلكترونات حول نواة الذرة وهو الاتجاه المعاكس لدوران عقارب الساعة الذي أوحي به للطواف حول بيت الله الحرام.

فالمؤمن مدرك لهذه الحقيقة (حقيقة دبيب الحياة في الحجر) ومُقرٌّ بها. فقد جاء في حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيحا كحنين النحل وكذا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم (1). هذا التسبيح للحصى ليس شيئا خارقا للعادة كما يمكن أن نتصور فقد جاء في كتاب الوصايا لابن عربي رحمه الله (2) : « روي في الصحيح أن الحصى سبح في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل الناس خرق العادة في تسبيح الحصى وأخطأوا، وإنما خرق العادة في سمع السامعين ذلك. فإنه لم يزل مسبحا كما أخبر الله إلا أن يسبح بتسبيح خاص أو هيئة في النطق خاصة لم يكن الحصى قبل ذلك يسبح به ولا على تلك الكيفية، فحينئذ يكون خرق العادة في الحصى لا في سمع السامع، والذي في سمع السامع كونه سمع نطق من لم تجر العادة أن يسمعه ».

إذن هذا التسبيح للحصى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو المعجزة في حد ذاته. إذ المعجزة هي الشيء الخارق للعادة الذي يجريه الله تعالى بقدرته على يد أنبيائه ليكون شاهدا لهم على صدقهم في ادعاء النبوة. وعليه فبما أن المعجزة هي شيء خارق للعادة فإن تسبيح الحصى ما دام ساريا في الكون ليس هو المعجزة وإنما المعجزة أن تصل أذن الإنسان إلى سماع مثل هذه الإصدارات التي تقع على ترددات لم تجر العادة عنده على استيعابها. فكانت المعجزة إذن ليس في تسبيح الحصى لأنه دائما مسبح ولكن في سماع رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك التسبيح. مما يدل من خلال حديث الحجر المسبح على أن الحجر حي في اتصال وجداني دائم مع ربه. وما المظهر الوهمي الذي يجسده لنا شكله الجمادي إلا حجابا عن التجلي الحق لهذا الكون المرتبط وجوده أصلا بحقيقة الحياة.

وهكذا فمن خلال ما جاء في كتاب الله من إشارات إلى وظائف الخلق نستبين أن أشياء كثيرة نحسبها جامدة ستشهد علينا يوم القيامة بما سجلته علينا في حياتنا مصداقا لقول الله تعالى: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) (فصلت 19). كما نستبين من كتاب الله الكريم أن الأرض تسجل على الإنسان بكل ذرة من ترابها آثار ما قدمت يداه وخطت رجلاه. يقول سبحانه وتعالى: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم) (يس 11). وقال ابن كثير في معرض تفسيره لهذه الآية : « جاء عن الإمام أحمد أنه خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهم: يا بني  سلمة  ديارَكم تُكتب آثارُكم ديارَكم تُكتب آثاركم ». وتحكي السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبّل الحجر الأسود كثيرا. وجاء في كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله (3) « أن عمرا رضي الله عنه قبّل الحجر الأسود ثم قال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ثم بكى حتى علا نشيجه فالتفت إلى وراءه فرأى عليا كرم الله وجهه فقال: يا أبا الحسن ها هنا تسكب العبرات وتُستجاب الدعوات. فقال علي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين بل هو يضر وينفع، قال وكيف ؟ قال: إن الله تعالى لما أخذ الميثاق على الذرية كتب عليهم كتابا ثم ألقمه هذا الحجر، فهو يشهد للمؤمن بالوفاء ويشهد على الكافر بالجحود ». وذلك هو المغزى من قول الناس عند استلام الحجر في الطواف: اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك. فالذي أوجد هذه الأشياء لم يخلقها عبثا بل كل شيء من الذرة وأصغر من ذلك إلى الجبل وأضخم منه إلا ويتفاعل مع الكون ويتجاوب مع مكوناته بسر وحدة التسبيح التي تنطق بها كل مكوناته مصداقا لقول الله تعالى : (يسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن. وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.) (الإسراء 44).

ومن هنا نستنبط أن الحجر إذا كان متحولا بطبعه عبر الزمان، مسبحا لربه بوجدان وشاهدا بما يحفظه في سجلاته على الإنسان، فهو ليس جامدا بل حيا في كل مكان لأن الجامد لا حياة فيه وبالتالي ليس له شيء من هذه الصفات. فكانت حقيقة الحياة في الحجر هي أصفى خلاصة لهذه الصفات وأعظم تجلّ لما تستبطنه أسرارها من مقاصد خلق الله لهذا الكون الذي لم يكن ليوجد لولا أن كانت جامع عوالمه الحياة. من أجل ذلك وحيث إن هذه الحجارة شكلت مهد نشوء الإنسان وموطن عيشه عبر الأزمان ومآل إقبار جسمه الفاني كان أحرى بالإنسان أن يستلهم من هذه الحجارة ببصيرته معاني الحياة الممتدة في عوالم الغيب الدالة على المغزى الوظائفي من وجود كل شيء في هذا الوجود.

من أجل ذلك كانت مادة الحجر التي مهدت لوجود الحياة على الأرض بمثابة شاهد على فاعلية الأرض وتجاوبها مع كل الكائنات، الشيء الذي يحمل في طياته إشارات قوية إلى مكانة الأرض التي تبقى من حيث احتضانها للإنسان في قلب الكون معرضا هائلا لمصنوعات الله، إذا تأملته وتدبرت في معانيه وجدته دالا لك على تطابق آيات الكون مع آيات الكتاب. وذلك ما انتهى إليه بديع الزمان سعيد النورسي في تأملاته حيث خلُص إلى أن الأرض هي قلب الكون لاحتضانها الإنسان عمد السماوات والأرض، فقال في ذلك رحمه الله: « إن الأرض التي هي بمثابة قلب الكون، قد أصبحت مشهرا لعجائب مصنوعات الله البديعة، ومحشرا لغرائب مخلوقاته الجميلة، وممرا لقافلة موجوداته الوفيرة، ومسجدا لعباده المتراصين صفوفا عليها، ومقرا لأداء صلاتهم.. هذه الأرض تظهر من شعاع التوحيد ما يملأ الكون نورا وضياء » (4). ثم أضاف رحمه الله قائلا: « ومن هنا فإن مهد هذا الإنسان ومسكنه وهو الأرض كفءٌ للسماء معنى وصنعةً ومع صغر الأرض وحقارتها بالنسبة إلى السماء فهي قلب الكون ومركزه، ومشهر جميع معجزات الصنعة الربانية.. ومظهر جميع تجليات الأسماء الحسنى وبؤرتها.. ومعكس الفعاليات الربانية المطلقة ومحشرها وسوق عرض المخلوقات الإلهية بجود مطلق »(4).

(1) نفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 3، ص 41.

(2) كتاب الوصايا لأبن عربي (ت 638 ه)، بيروت، دار الجيل، 1988، ص 22.

(3) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، بيروت، دار المعرفة، ج 1، ص 242.

(4) مفاتح النور في مفاهيم رسائل النور لفريد الأنصاري، القاهرة، دار النيل، 2010، ص 202 – 203.

Lire aussi

L’ORGUEIL ET LA SURESTIME DE SOI, PAR CHEIKH OMAR DOURMANE

L’orgueil est une maladie qui peut atteindre les êtres humains, mais aussi les groupes ou …

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *