رمضان شهر التحرر من رقّ الذات

(عبدالإله بن مصباح – جامعة ابن طفيل – المغرب)

إذا كانت لكل عبادة حكمة من أجلها شرع الله وجوبها. فإن الحكمة من صوم رمضان تكمن في كونه شهر التحرر من رِقّ الذات والعروج في شوارق الصفات، لأن رمضان بإماتته الشهوات في نفس الإنسان يكون حقق له أسمى معالم التقوى بانتشاله من أوحال نفسه الذميمة والرقي به في درجات الصفات العظيمة. فقد جاء في الصحيحين (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قال الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). واختلف العلماء في فهم وتفسير قوله تعالى: (إلا الصوم فإنه لي).

فمنهم من رأى أنه كذلك لأن الصوم هو العمل الخالص الذي لا يشوبه الرياء ولذلك نسبه سبحانه إلى نفسه. ومنهم من فسر نسبته إلى الله على أنها من قبيل التشريف والتعظيم. ومنهم من تعمق أكثر في الفهم فبين أن الصوم صفة من صفات الله المنزه عن الطعام والشراب وعن كل الشهوات ومن ثم فالعبد بصيامه يكون طلب الارتقاء إلى صفات الله.
 فكيف تتجلى آثار هذا الارتقاء على الصائم في رمضان؟

من التجليات العظيمة لشهر رمضان أنك ترى الصائم فيه يترقى في أحواله من صفاته الآدمية إلى صفات الرحمن العلية. فأجوَد ما يكون المؤمن وأكرم ما يكون وأرحم ما يكون وأطهر ما يكون وأسمح ما يكون وأعز ما يكون وأسلم ما يكون الناس منه وهو صائم في رمضان. ذلك لأن الصائم بصيامه إنما يكون طلب الاتصاف بصفة من صفات الله ألا وهي التنزه عن الشهوات والدنايا. فينقله سبحانه في أحواله إلى باقي صفاته. وفي ذلك قال العلاّمة عبد الله بن الصديق رحمه الله في كتابه غاية الإحسان في فضل زكاة الفطر وفضل رمضان (2) (ص 32): « إن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب جل جلاله. فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفة من صفاته أضافه إليه. قال القرطبي معناه: أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق. كأنه يقول: إن الصائم يتقرب إليّ بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي ».

فهذه الصفات التي بالصيام تقرب العبد بها إلى ربه هي في الأصل مبثوثة فيه منذ سواه ربه ونفخ فيه من روحه. وإنما تلاشت وتآكلت بفعل ما ألحقته بها العلل والأسقام التي طرأت على نفسه. فجاء رمضان ليحرره من هذه الشوائب التي طرأت عليه بإزالة الصدأ عن صفاته الأصلية وإعادة صقلها في كيانه.

فقد جاء في الحديث النبوي الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (3): « إن الله خلق آدم على صورته » وفي رواية « على صورة الرحمن » للدلالة على أن الإنسان فُطر على صفات الله. فكان أمره سبحانه للملائكة بالسجود لآدم في قوله عز وجل: (فإذا سوته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (الحجر 29) دالا على هذا المعنى، إذ إن سر هذا المخلوق من سر روح الله الذي يسجد له من في السماوات والأرض. لكن لما طال على هذا الإنسان الأمد غار ذلك السر في كيانه وهمَد فجاءه رمضان بالمد والمدَد ليستنهض فيه تلك الفطرة التي انطمس نورها في وجدانه وخمَد لعله بكل صفة فيه تتجدَّد يعرج في مراتب الإحسان التي من أجلها الملَكُ له سجَد.

وفي ذلك يقول الشيخ أحمد بن عجيبة الحسني رحمه الله (4) في شرح إحدى حكم ابن عطاء الله السكندري التي يقول فيها رحمه الله: « لا يُخرجك عن الوصف إلا شهود الوصف » يقول: « لا يخرجك عن أوصاف نفسك الذميمة إلا شهود أوصاف ربك العظيمة… فيخرجك عن شهود فعلك بشهود فعله، وعن شهود صفاتك بشهود صفاته، وعن شهود ذاتك بشهود ذاته. »
فإذا تحقق للعبد هذا العروج تولاه ربه بالرعاية وأحاطه سبحانه بالعناية فكان كما جاء في الحديث القدسي سمعَه وبصره ويده ورجله لأنه عز وجل يصبح النورَ المتغلغل في كل كيانه. وعليه فإذا رأيت الشياطين صُفّدت في رمضان فلأجل أن يعرف العبد حقيقة نفسه من هذا العروج فلا يُرجع الشر الصادر عنها إلى غيره، إذ لا ذريعة في هذا الشهر بالشيطان بل كل ما صدر عن الإنسان من سوء هو من رعونات نفسه (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) (يوسف 53).
من أجل ذلك كان رمضان مناسبة فريدة لتقويم نفس الإنسان وتطهيرها من العلل التي طرأت عليها والأسقام فأبعدتها عن صفة الكمال التي من أجلها خلقها رب الأنام. فإذا جاء في الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قد جاءكم شهر مُطهِّر » (5) فللتأكيد على أنه المناسبة السنوية التي يطهِّر فيها الإنسان نفسه بالتحرر من كل ما طرأ عليها من أعراض شوّهت جمالية الصورة التي فطرها الله عليها. تلك الصورة التي عليها خُلق الإنسان سويا والتي صفاتُها من صفات الرحمن العلية.
ومن هنا يكون سبحانه من خلال حرمانه عبده في هذا الشهر من موردات الأغيار وإمداده بواردات الأنوار إنما أراد به أن يحمله إلى إشراقة صفاته الزكية ويذكّره بقدسية حضرته العلية، حتى تتصفى عنده الروح من غَبَش الحس فتعرج في سُلّم الترقي إلى أصلها الذي سره من سر خالقها القائل في حقها: (قل الروح من أمر ربي) (الإسراء 85). فكان الإمداد الإلهي في هذا الشهر من جنس الصفات التي تطلّع إليها العبد بصيامه (وأنا أجزي به)، إذ يمده سبحانه عن تطلعه إلى جوده بالجود وعن تطلعه إلى إحسانه بالإحسان وعن تطلعه إلى كرمه بالكرم وعن تطلعه إلى عزته بالعزة وما إلى ذلك من الصفات التي إن اجتمعت في الإنسان كمُل مبناه وتمّ معناه.

ولهذا لما كان الكمال ذروة الصفات التي من أجلها خلق الله الإنسان وكان هذا الكمال صفة الله المنزه عن أبعاد الزمان والمكان جعل سبحانه في هذا الشهر ليلةً العبادةُ فيها خيرٌ من ألف شهر، شملها سبحانه بروحانية جليلة ونورانية عالية وحباها بسر عجيب ورَوْح رحيب فجعل الملائكة تتنزل والروح فيها بأمره حتى يطويَ الزمانَ أمام الإنسان فيعرج في أحواله من عوالم الغبَش البشرية إلى معالم التجريد الروحانية التي فيها تتصفى الروح من صفاتها الآدمية تطلب صفات الكمال السرمدية. تلك الصفات التي بها كمُل الكون مسخرا بكل مكوناته للإنسان صاحب الفكر والروية.

وهذا هو ما يجب أن يستحضره كل صائم في هذا الشهر إذ هو شهر تجديد العهد مع الله بالرقي في سلم كمالاته عن طريق الاتصاف بصفاته حتى يكون العبد على مستوى مسؤولية الخلافة التي من أجلها جعله الله في هذه الأرض سيّدا وعلى درجة الأمانة التي من أجلها جعله الله لهذا الكون عَمَدا. والحمد لله رب العالمين.

المراجع والمصادر:                     

  1. صحيح مسلم: الصفحة أو الرقم: 1151. صحيح البخاري: الصفحة أو الرقم: 5927.

  2. كتاب غاية الإحسان في فضل زكاة الفطر وفضل رمضان للعلامة عبد الله بن الصديق الغماري الحسني. من منشورات الزاوية الصديقية بالقصر الكبير (3). المغرب.

  3. الراوي: أبو هريرة. صحيح مسلم: الصفحة أو الرقم: 2612. وهو عند الألباني في السلسلة الصحيحة: الصفحة أو الرقم 1077.

  4. إبعاد الغمم عن إيقاظ الهمم في شرح الحكم للعارف بالله أحمد بن عجيبة الحسني (ت 1266 هـ)- بيروت: دار الكتب العلمية 2009.

  5. الراوي: أنس بن مالك. المحدث: ابن عدي. المصدر: الكامل في الضعفاء: الصفحة أو الرقم: 8/254.  

Lire aussi

FRANÇOIS BURGAT EN GARDE À VUE POUR « APOLOGIE DU TERRORISME »

François Burgat, universitaire, ancien directeur de recherche au CNRS, qui a consacré sa vie à …