عالَمية المصطلح العلمي في القرآن الكريم

عبد الإله بن مصباح – جامعة ابن طفيل – المغرب

لما تكلم القرآن الكريم عن عالم السماوات والأرض، استعمل في وصفه لحقائقه مصطلحات علمية بالغة الدقة عبّر بها عن الظواهر الكونية بأساليب غاية في الإيجاز وآية في الإعجاز. فوصف لنا ظاهرة بدء الكون بعبارة فتق الرتق التي حملت من الدقة العلمية ما يستدعي إعادة النظر في مقولة الانفجار العظيم (Big Bang) التي تستعملها العلوم الفلكية المعاصرة والتي تبقى من حيث الدلالة محتاجة إلى مزيد من التدقيق والتمحيص العلمي. ذلك أن الانفجار هو انتشار لأشلاء متناثرة في شتى الاتجاهات بطريقة غير منتظمة، بينما الكون تم بناءه وفق نظام محكم بدءً من فتق السماوات عن الأرض إلى تموضع كل جرم في فلكه.

فقبل أربعة ملايير وخمسمائة مليون سنة حسب تقدير علماء الجيولوجيا لم تكن الأرض شيئا مذكورا. وحسب تقديرات علماء الفلك يكون الكون بدأ قبل خمسة عشر مليار سنة انطلاقا من حقل أصلي دون أي أثر للمادة وبدون أي مفهوم زماني أو مكاني. ويبدو من خلال تحليلاتهم أن الأصل في ذلك يعود إلى انفجار كثلة من الجزيئات شديدة الكثافة تحت تأثير حرارة جد مرتفعة حالت دون تلاحم الجزيئات فيما بينها بيد أنه بعد فترة وجيزة نزلت الحرارة إلى حد أفضى إلى تكوّن نوايا ذرات الهيدروجين والهليوم بينما استغرق اكتمال تكوّن الذرات عدة آلاف من السنين.

هكذا تجمعت في أماكن من الفضاء بعض من هذه الغازات، وبعدما انخفضت درجة حرارتها تكتلت في شكل دخان. فحسب الدراسات الكونية للفرنسيين (BENEST & Claude FROESCHLE  Daniel)   والسويدي  ( Hans RICKMAN )  (1) المستندة إلى تحليل طبيعة المذنبات حيث تبيّن أن النواة المركزية لهذه المذنبات مكوّنة من مادة ترجع تركيبتها إلى أصل النظام الشمسي، فإن النظام الشمسي يكون بدأ انطلاقا من سحاب مكوّن من غاز وغبار تقلص من جراء تجاذب جزيئاته فبلغت الحرارة والكثافة في وسطه درجات أثارت تفاعلات حرارية ونووية نتج عنها ميلاد الشمس. أما الجسيمات المكوّنة لهذا السحاب فهي تتشكل من غازات كالهليوم والهيدروجين ومن الغبار وبعض المعادن والمواد العضوية الغنية بالكربون والمواد المتبخرة تجمعت كلها في شكل ما سماه الباحثون في علم الفضاء بدخان. وهذا الاستخلاص العلمي نجده يتطابق مع ما جاء في كتاب الله من وصف لبدء الكون حيث يقول الله عز وجل: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان)  (فصلت 11).

 أما فيما يخص الطاقة التي اعتُمدت في حدوث هذه التفاعلات فالمرجّح وحسب نفس الدراسات أنها كانت تُستمد من الماء بيد أن هناك جزء ضئيلا قد يكون استُمد من انفجار بعض المواد الإشعاعية كاليورانيوم. فالماء وجد في بداية الكون بكمية هامة كحبات متجمدة ليس لها أي شكل معين. والتفاعل الذي ولّد الطاقة كان نتيجة انتقال الماء من خاصيته كحبات متجمدة دون شكل إلى حبات متجمدة ذات شكل بلوري وذلك تحت تأثير ارتفاع طارئ للحرارة.

وهكذا فبعد اشتعال الشمس تحولت كل الحبات المائية إلى بلورات إلا في الآفاق البعيدة عن الشمس. وبذلك، وبما أن التفاعلات التي ساهمت في التحولات الأساسية لميلاد الكون نتجت عن الماء فإنه يستفاد أن الماء هو مصدر الطاقة الذي كان له التأثير المباشر على تكوّن المجموعة الشمسية وتطورها. وهذا الاستنتاج نجده متوافقا مع ما ذُكر في كتاب الله حول بدء الكون المعبر عنه بفتق الرتق حيث قال عز وجل: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي) (الأنبياء 44).

وكما يظهر في دراسات الفيزيائي الفلكيTrinh Xuan Thuan   (2)، فإنه بعد اكتمال تكوّن الشمس ظلت جزيئات كثيرة تدور حولها في مدارات مختلفة ومتفاوتة للسرعة مما أدى إلى تجاذب الجزيئات الصغيرة بالكبيرة وحدوث تكتلات في شبه كواكب. إلا أن البعض منها انتثر بينما البعض الآخر أعطى كواكب تطورت خلال عشرات الملايين من السنين لتأخذ مدارات تسبح فيها الكواكب في شبه دوائر متوازية ذات نظام محكم يبعد فيها كل كوكب عن الشمس بضعف المسافة التي تفصل سابقه عنها، وتأتي الأرض في المدار الثالث من الشمس بعد عطارد والزهرة بينما تبقى فوقها سبع مدارات لكواكب تبعد أكثر فأكثر عن الشمس انطلاقا من كوكب المريخ ثم الكويكبات فالمشتري وزحل وأورانوس ونيبتون إلى بلوتون.

هذا عن المجموعة الشمسية وهناك ملايير من المجموعات الأخرى تسبح داخل مجراتها في نظام كوني محكم. وقد أثبتت الدراسات أن النجوم تتنقل بسرعات تصل إلى مئات الكيلومترات في الثانية الواحدة ويمكن للنجم أن يقطع عشرة ملايير كيلومتر في السنة. الشيء الذي يجعل الناظر لا يدرك من النجم إلا الصورة التي كان عليها في موقعه لحظة الرؤيا أما جسمه الحقيقي فيبقى جد متنقل كما نستشف ذلك من قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) (الواقعة 75-76). ذلك أن الضوء الذي يشكل الأداة الأساسية في تقويمنا العلمي لمكونات الكون لا يصل إلى مركز موجود على بعد 300000 كلم إلا بعد ثانية من الزمان، وهي سرعة الضوء. فكيف بالأجرام المتواجدة على بعد ملايين بل ملايير الكيلومترات من مراكز رؤيانا في الأرض أن ندرك حقيقتها. فنحن عندما نرى القمر مثلا فإن تلك الصورة التي تلتقطها العين من الأرض للقمر هي في واقع الأمر الحالة التي كان عليها القمر قبل ثانية من زمن رؤيتنا له. كما أننا لما نرى الشمس تغرب فإن ذلك يعني أنها غربت فعليا قبل تلك اللحظة وإنما تصلنا منها صورة للموقع الذي كانت فيه منذ حوالي ثمان دقائق. أما إذا مددنا البصر إلى الأجرام البعيدة في الكون فإن ما يصل إلينا منها ليس إلا الحالة التي كانت عليها قبل ملايين السنين وقد تكون اندثرت كليا من الوجود ونحن مازلنا نرى صورتها. وهذا يعني أن ما نراه من النجوم في السماء ليس ما هو كائن في تلك اللحظة ولكن هو ما كان بحسب بُعد تلك الأجرام عن مركز الرؤية بالأرض. فلا يرى الرائي من الأجرام في المكان سوى لقطات لما سبق أن سجله الزمان كلا مأخوذا في لحظة مختلفة. وهذا هو ما عبر عنه القرآن بمواقع النجوم.

هذه التحركات للنجوم هي في واقع الأمر تجسيد لديناميكية الكون المتمثلة في الانتشار الذي يطغى على كل مكوناته. لكن نظرا لمحدودية معرفتنا العلمية بالكون التي لا تتجاوز 5 % من مكوناته، وهي العاكسة للضوء، فإن القسط الأكبر من الكون (95 %) يبقى ظلاما دامسا تستحيل علينا فيه الرؤيا. وهذا ما نستشفه من قول الله تعالى: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) (الحجر 14-15). أضف إلى ذلك أن الأماكن الساخنة من الكون تمتص أي أثر للضوء نظرا لوجود كم هائل من الذرات المؤينة (ionisés) التي تمتص الضوء. كما أنه نظرا لكون كثافة مادة الكون هي جد ضئيلة حيث لا توجد أكثر من ذرة واحدة من الهيدروجين، وهي الغالبة في تركيب هذه المادة، في كل خمسة أمتار مكعبة من الكون، فإن المشهد أعطى للعلماء انطباعا بأن المادة السوداء هي الغالبة على الكون إذ تنتشر بأضعاف أضعاف المعدل الذي ينتشر به الضوء فيه.

وهذا يعطي انطباعا بأن الكون بُني بناء محكما حيث تُجلّي لنا المشاهدات الفلكية لعلماء الفضاء الكونَ نسيجا متجانسا (cosmic web) في توسع (expansion) غير محدود يجري في جميع الاتجاهات الكونية (isotropie) وكأن الأرض في وسطه. هذا التوسع الكوني الذي انطلق مع حادثة فتق الرتق التي رفعت السماوات عن الأرض هو ساري في الكون بسرعة تنافر بين المجرات تزداد بنفس النسبة التي تزداد بها المسافة الفاصلة بينها كما تقر بذلك نظرية هابل (3). وعليه فبما أن سرعة هذا التوسع تبقى متصاعدة بتصاعد المسافات الفاصلة بين المجرات دون أن تُمد بأية قوة محركة رغم وجود عامل التجاذب الحاصل بين المجرات، اللهم إلا تلك القوة الأولية الناتجة عن وقع الانفصال الذي تولد عنه فتق الرتق، فذلك يعني أن هذا التوسع الساري في الكون هو قائم بقوة قادر كما دلت عليه الآية في قول الله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) (الذاريات 47) التي توحي بأن الله هو الذي يتولى مهمة التوسيع بفاعلية منه يبثها سبحانه في الكون ليظل في انتشار مستمر. ولا ينبغي أن يُفهم التوسع على أنه نتيجة عفوية لفارق الكثافة بين الأجرام ومادة الكون تنجم عنه قوى نابذة تؤدي إلى تنافر الأجرام وتباعدها في الكون، كشأن بالونات هواء موضوعة داخل جسم مادي أكثر كثافة كالماء مثلا فهي لابد أن تتصاعد إلى أعلى وتتنافر في اتجاهات مختلفة ؛ فهذا لا يمكن أن يحصل في الكون لأن عامل الجاذبية بين الأجرام يلعب من جهة أخرى دورا مضادا.

 إذن هناك قوة تتولى توسيع الكون في نَسَق التناغم بين مكوناته ولولاها لأطبقت السماوات على الأرض ولانقبض الكل على الإنسان. وتلك هي قوة الله التي تحفظ الكون من الانكماش بفعل مباشر منه سبحانه كما ورد ذلك في قوله تعالى: (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. إن الله بالناس لرؤوف رحيم) (الحج 63). ولذلك فالله سبحانه وتعالى لما وصف لنا ظاهرة التوسع نسب المهمة إلى ذاته العلية وأنه يتولاها سبحانه بفعل مباشر صادر عن قوته الخفية. وأكد لنا سبحانه ذلك من خلال صيغة التوكيد والشدة التي جاءت بها الآية (وإنّا لموسعون) للدلالة على قوة في الفعل تقابل فعلا مضادا تمثله تلك القوة الجاذبة التي تعمل في الاتجاه المعاكس على تجميع  الأجرام في الكون الذي من خلال خصائصه الفيزيائية يبدي نزوعا شديدا إلى الانقباض.

ولعل ذلك هو ما خلُصت إليه نتائج أحدث أبحاث علماء الفضاء من مجموعتين مختلفتين للبحث العلمي ؛ مجموعة Supernova Cosmology Project  ومجموعة  High-Z Supernova Team (4). هاتان المجموعتان تبين لهما من خلال المشاهدات الفضائية وقائع مذهلة اكتشف الباحثون من خلالها مجرات بعيدة تتباعد عن مجرتنا بسرعات تفوق بكثير ما ينبغي لها أن تكون عليه. مما يعني كما فسروه أن سرعة التوسع في الكون تتصاعد كما لو أن قوة غامضة سموها (الطاقة الظلماء) تعارض قوة الجاذبية بين الأجرام التي تعمل من جهتها على تجميع الكون وانكماشه. وهذا جعلهم يندهشون واضطرهم إلى الإقرار بضرورة وجود قوة خارقة في عالم آخر يقابل هذا الذي نحن فيه هي التي تمد عالمنا بالطاقة وتتولى تدبير نظمه كما جاء في تقاريرهم. فما تُرى تكون هذه القوة التي تبث الفاعلية في الأجسام السماوية حتى تبقى سابحة في نَسَق التوسع الكوني ؟

         إذا رجعنا إلى ما تنطوي عليه حقيقة هذا التوسع الكوني من خلال وقوفنا على حركة الأجرام السماوية المعبر عنها في كتاب الله بعملية السبح الواردة في قوله تعالى: (كل في فلك يسبحون) (الأنبياء 22)، فسنجد أن ظاهرة التوسع الكوني، حتى تنضبط في نَسق منسجم، كان لا بد لها أن تقترن بتناغم الفاعليات الذاتية المبذولة من مختلف الأجسام السماوية مع بعضها ومع كثافة مادة الكون.

ففي الاصطلاح اللغوي والاستعمال القرآني لكلمة سبح نجد أن هذه الكلمة تعني كما قال القرطبي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: (إن لك في النهار سبحا طويلا) (المزمل 7) « الجري والدوران ومنه السابح في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، وفرس سابح أي: شديد الجري ». وهذا يفيد ضرورة وجود عامل تأثيري لقوة ذاتية في الجسم حتى تتم عملية السبح. فإذن هي حركة ناتجة عن طاقة محركة من داخل الجسم، كما يحصل ذلك عند الطيور السابحة في جو السماء، أو الحيتان السابحة في عرض البحار التي إذا رأيتَها انسجمت في لوَحات سبحٍ جماعي فلحصول تفاعل متناغم بينها.

إلا أن دور الكثافة يبقى مع ذلك قائما بين الجسم السابح والمادة التي يسبح فيها. بحيث لا يتسنى لأي جسم متحرك أن يتنقل بسهولة إلا إذا كان في وسط مادي أقل كثافة من كثافته. وكلما ازدادت كثافة المادة التي يسبح فيها إلا وصعبت عليه الحركة. وبذلك جاء التعبير القرآني (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) (يس 40) دالا على تناغم حركة الأجرام السماوية في نسق السبح العام المنضبط بفعل الفارق بين كثافة مادة الأجرام وكثافة مادة الكون من جهة، وبين كثافة كل جرم مع الجرم الذي يحوم حوله من جهة أخرى. مما يجعل القمر يدور حول الأرض، والأرض بقمرها تدور حول الشمس، وكل مجموعة تنضبط في فلكها داخل منظومة الكون المتناغمة.

إذن هذه الفاعلية الذاتية التي أودعها الله تعالى في كيان الأجسام السماوية لتظل سابحة في الفضاء إلى مدة أجلها، تضفي عليها من الانتظام والانسجام ما لا يمكن التعبير عنه إلا بما جاء به الوصف القرآني في قول الله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (الملك 4). ذلك الوصف الذي يجلي لنا الكون وحدة متماسكة كما أثبته عالم الفضاء الأمريكي ستيفن واينبرغ الحاصل على جائزة نوبل (5) الذي رفع الستار عن حقيقة لم تكن معروفة من ذي قبل وهي ظاهرة التجانس الحاصل في الكون. فأظهر من خلال أبحاثه أن الأجسام السماوية تخضع لظاهرة بديعة من التجانس تتداخل فيها المجرات فيما بينها محيطة بالأرض من جميع الجهات. وهذا يفيد أن الخصائص المميزة لكل مجرة ستتوحد في انسجام تام مع خصائص المجرات الأخرى. فإذا كانت كل مجرة لها من الخصائص ما يميزها عن غيرها، فإن التداخل بين نطقها سيلغي هذا التمايز في الخصائص ويحدث لها تجانسا يوحّد فيما بينها. وهذا ما يضفي على الكون صفة التماسك التي تحمل في دلالاتها وقعا قويا لأثر الفاعلية الخفية التي لولاها ما ترتبت نظمه في هذا التناغم العجيب وما تشكل بنيانه في هذا التجانس البديع.

هذا التجانس الحاصل بين المجرات والذي يشكل بناء السماء، إذا أخذناه من بعد نظرية كوبرنيك التي نجد لها أصولا في التصورات الفلكية لابن طفيل والتي تُبين فلكيا أن الأرض تتوسط الكون، بحيث من أية جهة من الأرض نظرت إلى الكون رأيته محيطا بك، فسنجده يعبر عن تماسك رائع لنسيج الكون حول محيط الأرض، كشأن خيوط العنكبوت المحبوكة حول دائرة مركزية. وهذا التشبيه لنسيج الكون بنسيج العنكبوت الذي أصبح اليوم متداولا في التقارير العلمية لعلماء الفضاء بما يشاهدونه من مراصدهم الفلكية ليس بغريب إذا ما أخذناه من بعده الشكلي، فقد جاء في تفسير القرطبي لقول الله تعالى: (والسماء ذات الحبك) (الذاريات 7) أن عكرمة قال في تفسير الحبك: « ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، يقال منه حبك الثوب يحبكه حبكا أي أجاد نسجه« . وفي الجلالين الحبك هي الطرق. ولعل في التعبير الدقيق لقوله تعالى (ذات الحبك) إشارة إلى أن السماء هي التي تتولى مهمة حبك نسيجها تماما كما تقوم العنكبوت بنسج خيوطها من جهدها الذاتي. وهو دلالة أخرى على تلك الفاعلية الذاتية للأجسام السماوية في بناء نسيج الكون كما تقر بذلك التقارير العلمية لعلماء الفلك (6). تلك التقارير التي باتت اليوم أكثر استعمالا من أي وقت مضى لمصطلحات القرآن الكونية مثل « نسيج الكون »(cosmic web)   و »بناءه « (cosmic building)  و »توسعه » (expansion) و »تزيينه بالمصابيح » (beads on a string) وحبكه (filaments) وما إلى ذلك من المصطلحات التي تؤكد السبق العلمي للقرآن الكريم ودقة تعبيره البلاغي.

فإذا تتبعت هذه الحبك في الكون إلى مركز النسيج، وصلت إلى مجال السماء الدنيا، وهي المحيطة مباشرة بالأرض فوجدتها زينت للإنسان بالمصابيح. فإذا أتممت المسير في اتجاه المركز، ولجت نطاق ما بين السماوات والأرض الموصوف عند الله بقوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما) (مريم 65)، فتبين لك المغزى من الإشارة إلى هذه البينية في التلميح إلى مركزية الأرض من السماوات السبع المحيطة بها. تلك البينية التي تحمل في طياتها دلالات قوية على وحدة المنشأ لا يسطع  ضوءها إلا من خلال إطلالنا على البعد الزمني لنمو كل من السماوات والأرض. فقد جاء في كتاب الله ما يشير إلى تقديم خلق السماوات على خلق الأرض، كقوله عز وجل: (آنتم أشد خلقا أم السماء. بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها) (النازعات 27-30)، كما جاء فيه أيضا ما يفيد تقديم خلق الأرض على خلق السماوات، كقوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم) (البقرة 29). مما يعني أن خلق السماوات والأرض يبقى مشمولا في تدبير الله المنزه عن الزمان والمكان بخاصية المصاحبة الزمنية (كن فيكون) (يس 81) التي تدل على وحدة المنشأ وآنية التكوين. وهو ما وقف عليه المفكر الإسلامي الفرنسي موريس بوكاي (7)؛ حيث قال في شأن التحديد الزمني لمراحل خلق السماوات والأرض: « المذكور (يعني في القرآن) هو مجموعتان من الظواهر، جزء منها أرضي والآخر سماوي. وقد حدث كلاهما في اتصال مع الآخر. وبالتالي فذكر هاتين المجموعتين من الظواهر يعني أن الأرض كانت بالضرورة موجودة قبل أن تمد، وعليه فقد كانت موجودة حين بنى الله السماوات . وينتج من هذا فكرة المصاحبة الزمنية لنمو كل من السماوات والأرض بشكل تتداخل فيه الظاهرتان« .

         ومما يزيد مشهد وحدة بنيان السماوات والأرض وضوحا ما جاء به كتاب الله من وصف لتوحد أقطار السماوات والأرض في الإشارة الواردة في قول الله تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) (الرحمن 33). فكون كلمة أقطار ورد ذكرها موحدا بين السماوات والأرض يعني أن السماوات والأرض شكلت وما تزال وحدة متكاملة، لأن القطر في الاصطلاح الهندسي يعني الخط الواصل بين طرفي شكل معين مرورا بمركزه، فإذا تصورنا الأقطار كخطوط تمر بمركز الأرض لتستقيم في جميع الاتجاهات السماوية المتعامدة مع سطحها، فسيبدو لنا عالم السماوات والأرض كشكل متماسك تحيط فيه السماوات بالأرض حول مركز كائن في نواتها. وذلك ما يحمل الإشارة إلى توسط الأرض لعالم السماوات ووجود الإنسان في قلب هذا البناء، لأن الكون قبل أن يكون مبناه كان الإنسان في لب معناه عينَ القصد من تصميم نُسقه وسرَّ المغزى من ترتيب نُظمه. بحيث سبق تشييدَ مبنى الكون تحديدُ المعنى الذي من أجله أقيم وهو الإنسان الذي على مقاسه فُصّل بنيانه وعلى طباعه صُمم نظامه.

هذا التصور يبدو لنا من خلال مضمون قرار الأرض من مفهوم التوسع القائم في البناء السماوي المتعامد معها الوارد في قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء) (غافر 64). فالكل يشكل وحدة  متماسكة بين كتلتين لا ينبغي لأي منهما أن تزول عن الأخرى كما جاء في قوله سبحانه: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) (فاطر 41) في إشارة إلى أن السماوات وإن ورد ذكرها بصيغة الجمع، فهي لا تشكل في سياق الآية سوى كتلة واحدة تقابل كتلة الأرض في تماثل شامل، كما يقر بذلك فعل زال الذي  جاء  بصيغة المثنى (تزولا – زالتا) وليس بصيغة الجمع للدلالة على تطابق كتلتين كانتا ملتصقتين عند بدء التكوين (أن السماوات والأرض كانتا رتقا) ففصل الله بينهما (ففتقناهما) بظاهرة التوسع التي انطلقت بحادثة فتق الرتق لتظل سارية في جميع الاتجاهات الكونية المتعامدة مع الأرض. مما يوحي بأن الأرض كانت في قلب البناء الكوني منذ اللحظة الأولى لبنائه وأن الإنسان الذي من أجله خلقت الأرض كان قبل أن يوجد فيها مستحضرا في صلب موضوع الكون وكأنه كان عينَ القصد من كل ذلك.

وهذا ما ختم به عالم الفيزياء الفلكية الأمريكي ستيفن واينبرغ (5) كتابه (الثلاث دقائق الأولى للكون) قائلا (ص 179): « من المستحيل ألا يعتقد الإنسان بوجود علاقة خاصة بينه وبين الكون، أو أن يعتقد بأن الحياة إنما هي إفاضة لسلسلة حوادث راجعة إلى الدقائق الثلاثة الأولى للكون، بل من المؤكد أننا كنا مستحضرين منذ البداية ». وهو ما سبقه إليه ابن عربي منذ أزيد من سبعة قرون في كتابه نقش الفصوص (8) الذي خلص فيه رحمه الله إلى أن الإنسان عمد السماوات والأرض وأن العالم لا معنى له بدون وجود الإنسان وأن الإنسان كان المقصود من خلق السماوات والأرض، فإذا انقضى أجله خرت السماوات على الأرض بزواله وانتقلت العمارة إلى الآخرة من أجله.

  عبد الإله بن مصباح – جامعة ابن طفيل – المغرب

(1)   BENEST D., FROESCHLE C. & RICKMAN H (1989) – La dynamique des comètes. La recherche n° 214, pp. 1172-1183.

  (2)    TRINH XUAN THUAN  (1986) – La formation de l’univers. La recherche n° 174, pp. 172-181.

(3)  HUBBLE E. P. (1936) The realm of the nebulae, Yale University Press.

(4)Sciences et Vie H.S. n° 221, dec. 2002, Paris, p. 37

(5) WEINBERG S. (1978) Les trois premières minutes de l’univers. Ed. Seuil, n° 144, 211 p.

(6)                :   http://map.gfsc.nasa.gov/m_uni/uni_101forstpnj.html  

http://www.eso.org/outreach/press-rel/pr-2001/pr-11-01.html

(7)  موريس بوكاي: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة – بيروت: دار المعارف 1978.

(8) نقد النصوص للشيخ بدر الدين عبد الرحمن بن أحمد الجامي (ت 898 هـ) في شرج نقش الفصوص للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الحاتمي (ت 638 هـ) – بيروت: دار الكتب العلمية 2005، ص. 75.

Lire aussi

LE « POÈTE » RADICAL QATARI IBN AL-DHEEB PERSONA NON GRATA EN EUROPE

Le « poète » qatari ibn al-Dheeb, de son véritable nom Mohammed Rashid Hassan Al-Ajami, qui habite …

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *